بِلَا نِزَاعٍ. وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى الصَّوَابِ. اهـ.
وَلَعَلَّ مَذْهَبَ الْبُخَارِيِّ حَسَبَ صَنِيعِهِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ أَتَى فِي نَفْسِ الْبَابِ، بَعْدَ حَدِيثِ شَدِّ الرِّحَالِ مُبَاشَرَةً بِحَدِيثِ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» ، مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ مُوجِبِ شَدِّ الرِّحَالِ هُوَ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ شَدِّ الرِّحَالِ مُخْتَصًّا بِالْمَسَاجِدِ، وَلِأَجْلِ الصَّلَاةِ إِلَّا فِي تِلْكَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ; لِاخْتِصَاصِهَا بِمُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَمَاكِنِ الْأُخْرَى.
وَقَدْ نَاقَشَ ابْنُ حَجَرٍ لَفْظَ الْحَدِيثِ، وَرَجَّحَ هَذَا الْمَذْهَبَ حَيْثُ قَالَ:
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَوْلُهُ: «إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ. فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ. أَوْ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي.
وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً، وَهُوَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ. فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ: مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ الشَّرِيفِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَغَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّبْكِيُّ الْكَبِيرُ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ بُقْعَةٌ تُفَضَّلُ لِذَاتِهَا حَتَّى تُشَدَّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ غَيْرَ الْبِلَادِ الثَّلَاثَةِ. وَمُرَادِي بِالْفَضْلِ: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا. أَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَلَا تُشَدُّ إِلَيْهَا لِذَاتِهَا، بَلْ لِزِيَارَةٍ أَوْ جِهَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُبَاحَاتِ.
قَالَ: وَقَدِ الْتَبَسَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَزَعَمَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى الزِّيَارَةِ لِمَنْ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ وَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبٍ لَيْسَ إِلَى الْمَكَانِ، بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute