للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فإذا حدَّد الإمام معنى النظم، ليصل عن طريقه إلى الصورة، فإنما يحدِّده بناء على مشاركة منه مع النقاد الذي سبقوه، فهم جميعًا قد شاركوا كلٌّ بقدر، واستقطبت عبقرية الإمام كل المنابع الثرة، وتجمعت في نفس واحدة، لتخرج قضية النظم والصورة، ممتزجة بروح ذلك الناقد القديم، وفاضت عن ذوقه الأدبي وأصالته المتميزة، مما يخيل للدارس أنها من صنعته، ومن ابتكار شخصه. وتلك عظمة العباقرة في قدراتهم، فإنها توهم الغير بأن أصحابها وحدهم هم أهل الفضل فيها وصلوا إليها، ولا فضل للعصور السابقة عليهم، ولا لمن سبقه ومهد له الطريق ولا لعصره عليه.

والحق أننا في الحكم عليه بشخصيته الفذة وعقليته الخارقة، وعبقريته المجددة المتنكرة، لا يصح أن نغمط حق من قبله، وحق العصور السالفة عليه، وفضل عصره عليه، الذي هام الناس فيه باللفظ، وقد ثبت أركانه الجاحظ، حتى كاد الشكل في الصورة يقضي على الأدب، ووقف بجانب أنصار اللفظ وهم كثير، وجمع قليل بناصر المعنى، ثم تلك العامية التي انتشرت في عصره، وأوشكت أن تقضي على جمال اللغة.

وفي وسط هذا الصراع بتياراته المختلفة تمكن أهل المجال والطاعنون في إعجاز القرآن وبلاغته من المساس بأعظم مقدساتنا لرأي باللفظ جعل الطاعنين يذهبون إلى دعاوى باطلة كمثل قولهم: إن اللفظ عربي، والعرب أقدر على الناس على مجاراته، ولذا فهم يستطيعون الإتيان بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك لتظل هيبة القرآن في النفوس متفردًا بالجلال والإعجاز، والرأي بالمعنى جعل طائفة تنفي الإعجاز أيضًا لأن الأمر يتصل بالمعنى وليس هذا في طاقة العرب وفي قدرة البشر.

وفي كلا الأمرين تسقط المعارضة، ولا تصح المجارة فالتفوق والتفاوت لا يتم

<<  <   >  >>