ولنا أن نقول على طريقته في تقديم اليتيم على السائل: " قدم اليتيم على
السائل. لأن اليتيم أضعف من السائل. إذ هو لا يكون يتيماً إلا دون البلوغ
والرُشد. والسائل قد يكون بالغاً راشداً. فقدم ما هو مظنة الضعف وموضع
الرعاية والعطف على ما هو ليس بهذه الحالة.
ويتأكد المعنى وضوحاً إذا أخذنا بالرأي القائل إن المراد بالسائل هو سائل
العلم لا الطالب الصدقة.
ونظيره ما تقدم عند ابن الصائغ في تقديم الوصية على الدَّيْن.
ولعل من هذا النوع تقديم الإناث على المذكور في معرض الهبات: (يَهَبُ
لِمَن يَشَاءُ إنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكُورَ) .
لأن الأنثى أقل شأناً من الذكر في معرض الهبة. وكان العرب يرون هبتها
عاراً فقدمت الإناث على المذكور تنبيهاً لهم على خطأ تلك النظرة لإفادة أن
الإنثى والذكر سواء كلاهما هبة من الله.
وهذا التوجيه أراه أنسب مما ذهب إليه ابن الأثير آنفاً حيث جعله بلاء.
كما كانوا ينظرون إليه - فقدم ليلائم البلاء.
وقريب منه ما ذكره أبو السعود في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا. .)
حيث قدم حالة القاتلية على المقتولية، للإيذان بعدم الفرق
بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس.
والداعي إلى هذا التقديم أن الناس كانوا لا يساوون بين أن يَقتل المجاهد
العدو. وبين أن يُقتل هو. فالاستشهاد أعظم صور الجهاد.