فِي الْمَهَانِ وَالْعَذَابِ قِيلَ عَنْ الرِّعَايَةِ مَا حَاصِلُهُ أَرَأَيْت مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِضَرْبِ أَلْفِ سَوْطٍ وَحُبِسَ لِأَجْلِهِ فِي سِجْنٍ يَنْتَظِرُ مَتَى يَخْرُجُ وَيُضْرَبُ كَيْفَ ذِلَّتُهُ فِي السِّجْنِ وَتَوَقُّعُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَرْضِ فَيُضْرَبُ، فَكَذَا مَنْ فِي سِجْنِ الدُّنْيَا وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ لَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا فَيُعْرَضُ عَلَى الْعَذَابِ فَهُوَ فِي خَوْفِ الْعَذَابِ يَتَوَقَّعُ الْمَوْتَ فَيَعْمَى بَعْدَ الْبَصَرِ وَيَصَمُّ بَعْدَ السَّمْعِ وَيَبْكَمُ بَعْدَ النُّطْقِ وَلَوْ تُقَطَّعُ أَوْصَالُهُ فَيَكُونُ جِيفَةً مُنْتِنَةً وَقَذِرَةً مُسْتَوْحَشَةً ثُمَّ يُحْيِيهِ اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَزَفِيرُ جَهَنَّمَ فِي سَمْعِهِ وَرُكُوبُ الصِّرَاطِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فَالْعَرْضُ عَلَى الْمَوْلَى لِلسُّؤَالِ لِكُلِّ عَمَلِهِ فَالْأَمْرُ إلَى عَذَابٍ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ فِي غَايَةِ هَوَانٍ وَضَعْفٍ وَذُلٍّ.
فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ كَيْفَ كَانَ مَبْدَؤُهُ وَأَصْلُهُ وَفَصْلُهُ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى وَالْعَذَابِ فَلَا جَرَمَ زَالَ عَنْهُ الْكِبْرُ وَلَزِمَهُ الْخُضُوعُ وَالذِّلَّةُ وَالتَّوَاضُعُ وَالشُّكْرُ لِلنِّعَمِ وَالِانْكِسَارُ لَعَلَّ هَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ يَكْفِي فِي هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى سَبْعِ آيَاتٍ - {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: ١٧] {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: ١٨] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: ١٩] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: ٢٠] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: ٢١] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: ٢٢]- فَقَدْ أَشَارَتْ إلَى أَوَّلِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَخُلِقَ مِنْ كَتْمِ الْعَدَمِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا وَلَا شَيْءَ أَخَسَّ مِنْ الْعَدَمِ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ أَذَلِّ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ مِنْ أَقْذَرِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ لَيْسَ لَهَا حَيَاةٌ وَقُوَّةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ ثُمَّ خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: ١٨] {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: ١٩]- ثُمَّ امْتَنَّ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: ٢٠]- وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ إلَى الْمَوْتِ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى غَايَةِ النُّقْصَانِ تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ وَتُضَادُّ فِيهِ الطَّبَائِعُ وَيَهْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَمْرَضُ كُرْهًا وَيَجُوعُ كُرْهًا وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ الْمَوْتِ وَالْآفَاتِ ثُمَّ آخِرُهُ الْمَوْتُ وَالتَّعَرُّضُ لِلْعِقَابِ وَالْحِسَابِ فَإِنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالْخِنْزِيرُ خَيْرٌ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِهِ الْكِبْرُ وَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: ٢١] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: ٢٢] .
- (وَمَعْرِفَةُ عُيُوبِ غَوَائِلِ الْكِبْرِ) لِيَمْتَنِعَ عَنْهُ وَيَجْتَهِدَ فِي إزَالَتِهِ.
(وَ) مَعْرِفَةُ (فَوَائِدُ التَّوَاضُعِ وَفَضَائِلِهِ) لِيَتَشَوَّقَ إلَى تَحْصِيلِهِ (مِنْ كَوْنِهِ) بَيَانٌ لِلْفَضَائِلِ (مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُوتِيتُ مَفَاتِحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَخُيِّرْت بَيْنَ أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا وَنَبِيًّا مَلِكًا بِكَسْرِ اللَّامِ فَأَوْحَى جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ فَاخْتَرْت أَنْ أَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُوتِيتُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلَ شَافِعٍ» كَذَا نُقِلَ عَنْ الْقُنْيَةِ، وَفِي الْفَيْضِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى أَتَدْرِي لِمَ اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قَالَ لَا يَا رَبِّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَاضَعْ إلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ تَوَاضُعَك (وَالْأَوْلِيَاءِ) رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا قِصَّةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنُقِلَ عَنْ تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ كَانَ عِنْدَهُ ضَيْفٌ فَاسْتَعْجَلَتْ جَارِيَةٌ بِالْعِشَاءِ فَأَرَاقَتْ الْقَصْعَةَ عَلَى رَأْسِ سَيِّدِهَا فَقَالَ سَيِّدُهَا أَحْرَقْتنِي فَقَالَتْ يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ وَمُؤَدِّبَ النَّاسِ ارْجِعْ إلَى مَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: ١٣٤]- قَالَ كَظَمْت غَيْظِي قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: ١٣٤]- قَالَ عَفَوْت عَنْك، قَالَتْ زِدْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ - {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: ١٣٤]- قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى (وَالْعُلَمَاءِ) الْعَامِلِينَ (وَالصَّالِحِينَ) وَكَانُوا أَعَزَّ النَّاسِ عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ إلَّا زَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِفْعَةً.
كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَاشِيَةِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَقِيلَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ أَنْ يَضَعَ نَفْسَهُ حَيْثُ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعَجْزِ وَذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ تَحْتَ أَوَامِرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَكُونَ عَبْدًا فِي كُلِّ حَالٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute