وَسَوَّى بَيْنَ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ وَضِدَّيْهِمَا ثَمَّ قَالَ: إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلَهُ وَلَدٌّ أَوْ وَلَدُّ وَلَدٍ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ بِلَا مِرْيَةٍ وَمُقَرَّرٌ بِلَا شُبْهَةٍ أَنَّ الْوَلَدَ هُنَا حَقِيقَةٌ فِي فَرْعِ مَنْ بَاشَرَهُ الْعِتْقُ، أَلَيْسَ الدَّلَّالَةُ عَلَى الْفَرْعِ بِلَفْظِ حَقِيقَتِهِ مِمَّا يُعَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَتِيقِ حَقِيقَتُهُ فَقَطْ دُونَ مَجَازِهِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ لَفْظَ عَتِيقٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِيمَنْ بَاشَرَهُ الْعِتْقُ وَفِي فُرُوعِهِ، سَوَاءٌ أَقُلْنَا إنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ عَلَى التَّوْزِيعِ أَفَتَحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُضَلَاءِ بَلْ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالَ: إذَا اجْتَمَعَ مِنْ لَافِظٍ وَاحِدٍ فِي تَعْبِيرٍ وَاحِدٍ حَقِيقَتَانِ أَلْغَيْنَا مَدْلُولَ أَحَدِهِمَا اعْتِبَاطًا وَجَعَلْنَاهُ مَدْلُولًا مَجَازِيًّا لِلْأُخْرَى، وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَثَابَةِ رَأَيْتُ رَجُلًا شُجَاعًا إذَا غَابَ الْأَسَدُ خَلَفَهُ فِي شَجَاعَتِهِ، فَالْأَسَدُ بِمَثَابَةِ الْعَتِيقِ لِتَأَصُّلِ الْوَصْفِ فِيهِ، وَالْغَيْبَةُ بِمَثَابَةِ الْمَوْتِ، وَالرَّجُلُ الشُّجَاعُ بِمَثَابَةِ الْوَلَدِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الشَّجَاعَةِ بِمَثَابَةِ قِيَامِ وَلَدِ الْعَتِيقِ مَقَامَهُ فِي حَوْزِ نَصِيبِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِلَبِيبٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَرِيبٍ أَنْ يُخَالِجَهُ شَكٌّ أَوْ يُزَاحِمَهُ وَهْمٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسَدِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْهَيْكَلُ السَّبُعِيُّ الْمَخْصُوصُ فَقَطْ، وَبِالرَّجُلِ الشُّجَاعِ الذَّكَرُ الْبَالِغُ مِنْ بَنِي آدَمَ وَإِلَّا لَزِمَ إهْمَالُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَعَ تَأَتِّيهِ وَإِعْمَالُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مَعَ عَدَم تَأَتِّيهِ.
وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - شَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى مَا ادَّعَيْنَاهُ وَهُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي هَلْ يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَقْتَرِنُ بِمَا يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِخُرُوجِهِمْ كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَحْفَادِي فَهَلْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ ثَمَّ حَقِيقَتَيْنِ أَعْمَلَ كُلَّ مِنْهُمَا فِي مَدْلُولِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ لَهُ الْمَدْلُولُ الْمَجَازِيُّ مَكَانًا تَنَزَّلْنَا حَيْثُ لَا مُنَزَّلَ، وَكُلِّفْنَا الْقَوْلَ بِمُسَاوَاةِ التِّبْرِ لِلتُّرَابِ الْأَسْفَلِ، وَسَلَّمْنَا مَا ادَّعَيْتُمُوهُ قَرِينَةً أَفَلَا تَجْعَلُونَهُ مُسَاوِيًا لِقَرِينَتَا فَيَتَعَارَضَانِ فَيَتَسَاقَطَانِ وَنَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْكَمَالِ، فَإِنْ قُلْتَ إنَّ الْكَمَالَ عَقَّبَ مَا حَكَيْتَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَكْثُرْ اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ كَثْرَةً يُوَازِي بِهَا الْحَقِيقَةَ بِحَيْثُ يَتَسَاوَيَانِ، فَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْقَوَاطِعِ لِابْنِ السَّمْعَانِيِّ قُلْنَا: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: ١٤] أَتَقَوَّلُ: إنَّ لَفْظَ عَتِيقٍ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ الْعِتْقُ كَهُوَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَهُ؟ وَأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ فَهْمًا وَبِدَارًا إلَى الذِّهْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَلْتَزِمُ ذَلِكَ اللَّهُمَّ مَنْ أَغْشَى التَّعَصُّبُ بَصَرَ بَصِيرَتِهِ وَحَلَّى ظَاهِرَهُ بِتَعْطِيلِ سَرِيرَتِهِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ وَتَبَيَّنَ مَا نَهَيْنَا عَلَيْهِ فَالْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا خَطَأَ يَعْتَرِيهِ، أَنْ يَسْتَحِقَّ أَهْلُ الْحَرَمِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ مُشَاطَرَةَ الْعُتَقَاءِ فِي الرَّيْعِ عِنْدَ بُلُوغِ الْعُتَقَاءِ بِالتَّنَاقُصِ خَمْسِينَ نَفَرًا كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَعَدَمُ قِيَامِ أَوْلَادِ الزَّائِدِينَ عَلَى خَمْسِينَ مَقَامَهُمْ فِي الْعَدِّ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لِحِرْمَانِهِمْ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يُهْدِي السَّبِيلَ، هَذَا بَعْضُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالثَّانِي مِنْهَا لِمَالِكِيٍّ وَالرَّابِعُ لِحَنَفِيٍّ وَالْبَقِيَّةُ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَهَلْ تَعْتَمِدُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَاذَا مِنْهَا فَإِنَّ الْخَطْبَ فِيهَا عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُفْتِينَ، وَالتَّنَازُعُ الشَّدِيدُ فِي تَحْرِيرِهَا قَدْ تَفَاشَى بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَوُلَاةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ بِحَيْثُ إنَّ كَثِيرِينَ أَفْتَوْا ثَمَّ رَجَعُوا ثَمَّ أَفْتَوْا وَصَمَّمُوا، وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّنَاقُضِ وَالتَّخَالُفِ، فَلَعَلَّ بِجَوَابِكُمْ يَحْصُلُ التَّوَافُقُ وَالتَّآلُفُ، جَزَاكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَيْرًا عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمَتَّعَكُمْ بِقُرْبِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ فِي بَلَدِهِ الْأَمِينِ آمِينَ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَا ذُكِرَ فِي الْأَجْوِبَةِ الثَّلَاثَةِ، الْأَوَّلُ: مِنْ قِيَامِ الْوَلَدِ مَقَامَ أَبِيهِ لِلْقَرِينَةِ الَّتِي أَشَارُوا إلَيْهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ، وَذِكْرُ الْقَرِينَةِ لِمَزِيدِ التَّقْوِيَةِ وَدَفْعِ الْخِلَافِ لَا لِاشْتِرَاطٍ لِمَا يَأْتِي فِيهِ هُوَ اللَّائِقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَالَات الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ كُتُبِ الْأَوْقَافِ كَمَا سَتَرَاهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ.
وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ عَدَمِ قِيَامِ الْوَلَدِ مَقَامَ أَبِيهِ لِعَدَمِ اتِّضَاحِ الدَّاعِي إلَى التَّجَوُّزِ، وَالْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ، وَالْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ هُوَ اللَّائِقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute