وَاحْتِقَارُ مَا سِوَاهُ قَالَ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ بَأْسَ الْعَمَلِ فَقَالَ (أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْمَعْرِفَةُ) أَيْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ إذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِهَا وَاجِبٌ بَلْ وَلَا مَنْدُوبٌ (وَقَالَ الْأُسْتَاذُ) أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ
ــ
[حاشية العطار]
وَقَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ مُوَالِيًا:
يَا وَاصِفِي أَنْتَ فِي التَّحْقِيقِ مَوْصُوفِي ... وَعَارِفِي لَا تُغَالِطْ أَنْتَ مَعْرُوفِي
إنَّ الْفَتَى مَنْ بِعَهْدِهِ فِي الْأَزَلِ يُوفِي ... صَافَى فَصُوفِيَ لِهَذَا سُمِّيَ الصُّوفِيُّ
وَقِيلَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهِ غَلَبَةُ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى أَهْلِهِ كَالْمُرَقَّعَاتِ؛ وَحِكْمَتُهَا كَمَا ذَكَرَهُ الشَّعْرَانِيُّ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ ثَوْبًا كَامِلًا مِنْ الْحَلَالِ بَلْ قِطَعًا قِطَعًا وَقِيلَ لِشَبَهِهِمْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ آمِرَةٌ بِالْتِزَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَالْحَقِيقَةُ مُشَاهَدَةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَكُلُّ شَرِيعَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالْحَقِيقَةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَكُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرُ مُؤَيَّدَةٍ بِالشَّرِيعَةِ فَغَيْرُ مَحْصُولٍ فَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِتَكْلِيفِ الْخَلْقِ وَالْحَقِيقَةُ إنْبَاءٌ عَنْ تَصْرِيفِ الْحَقِّ فَالشَّرِيعَةُ أَنْ تَعْبُدَهُ وَالْحَقِيقَةُ أَنْ تَشْهَدَهُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] حِفْظًا لِلشَّرِيعَةِ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] إقْرَارٌ بِالْحَقِيقَةِ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَاحْتِقَارُ مَا سِوَاهُ) أَيْ عَنْ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يَحْتَقِرُهُ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيمَا سِوَاهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وَتَعْظِيمُهُمْ وَاجِبٌ وَمُحَصِّلُهُ أَنْ يَجْعَلَ قَصْدَهُ حَضْرَةَ الْحَقِّ فَلَا تَحْجُبُهُ الْأَغْيَارُ عَنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ قَالَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آيَسْتُ مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ لَا أَيْأَسُ مِنْ غَيْرِي اهـ.
وَلَا أَنْ يَطْرَحَ الْأَغْيَارَ عَنْ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ وَإِعْطَاءِ الْمَظَاهِرِ حُكْمَهَا قَالَ فِي لَوَاقِحِ الْأَنْوَارِ مِنْ كَمَالِ الْعِرْفَانِ شُهُودُ عَبْدٍ وَرَبٍّ وَكُلُّ عَارِفٍ نَفَى شُهُودَ الْعَبْدِ فِي وَقْتٍ مَا فَلَيْسَ هُوَ بِعَارِفٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ صَاحِبُ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ سَكْرَانُ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اجْتَمَعَتْ رُوحِي بِهَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ فَقُلْتُ لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ قُلْتَ {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف: ١٥٠] وَمَنْ الْأَعْدَاءُ حَتَّى تَشْهَدَهُمْ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَصِلُ إلَى مَقَامٍ لَا يَشْهَدُ فِيهِ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ السَّيِّدُ هَارُونُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَحِيحٌ مَا قُلْتَ فِي مَشْهَدِكُمْ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُشَاهِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا اللَّهَ فَهَلْ زَالَ الْعَالَمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ مَشْهَدُكُمْ أَمْ الْعَالَمُ بَاقٍ لَمْ يَزُلْ وَحُجِبْتُمْ أَنْتُمْ عَنْ شُهُودِهِ لِعَظِيمِ مَا تَجَلَّى لِقُلُوبِكُمْ فَقُلْتُ لَهُ الْعَالَمُ بَاقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَزُلْ وَإِنَّمَا حُجِبْنَا نَحْنُ عَنْ شُهُودِهِ فَقَالَ قَدْ نَقَصَ عِلْمُكُمْ بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ شُهُودِ الْعَالَمِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ آيَاتُ اللَّهِ فَأَفَادَنِي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدِي انْتَهَى (قَوْلُهُ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ) أَيْ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ لَا إدْرَاكُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ حَقِيقَتِهِ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: ١١٠] فَالْمُرَادُ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانِيَّةُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لِأَنَّهَا مَبْنَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَقَوْلُهُ إذْ لَا يَصِحُّ إلَخْ أَيْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ امْتِثَالًا وَالِانْكِفَافَ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ انْزِجَارًا لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَالنَّاهِي اهـ. زَكَرِيَّا.
ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ وَاجِبَةٌ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ فَقَوْلُهُ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ أَيْ شَرْعًا وَنَقَلَ عَنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ مُوجِبًا وَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِإِيجَابِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَبْنُونَ كَلَامَهُمْ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ فَيَجْعَلُونَ ذَاتَ الْعَقْلِ تَسْتَقِلُّ بِهِ الْأَحْكَامُ وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ مُذَكِّرًا وَمُقَوِّيًا لِلْعَقْلِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ لَا أَنَّهُمْ يَنْفُونَ اسْتِفَادَةَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّرْعِ وَيُضِيفُونَهَا لِلْعَقْلِ وَإِلَّا لَكَفَرُوا وَمَعْنَى مَا نَقَلَ عَنْ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ إيجَابَ الْمَعْرِفَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَحْضِ اخْتِيَارِهِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ أَمْكَنَ الْعَقْلُ أَنْ يَفْهَمَهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لِوُضُوحِهِ لَا بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِ ذَاتِهِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَكْسُ مَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ لَمْ تَجِبْ الْمَعْرِفَةُ بِالْعَقْلِ لَزِمَ إفْحَامُ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إلَيْهِ يَقُولُ لَا أَنْظُرُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدِي وُجُوبُ النَّظَرِ عَلَيَّ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّظَرِ فِيمَا تَدْعُونِي إلَيْهِ فَأَنَا لَا أَنْظُرُ أَصْلًا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الِامْتِثَالِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِالْحُكْمِ بَلْ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعِ فَقَوْلُهُ