للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالرَّجُلُ مَا قَالَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ خَصْمُهُ وُجُودَ الصِّغَرِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ وُجُودَ الْأُنُوثَةِ، فَلِهَذَا يُبْنَى عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ مُعَارَضَتَهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَدُلَّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَارَضَ فَقَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُسْتَدِلًّا فَلَهُ إقَامَةُ الدَّلِيلِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ إذَا مُونِعَ وُجُودُ الصِّغَرِ ذَكَرَ عِلَّتَهُ وَيَكْفِيهِ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا (الطَّرْدِيِّينَ) وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ وَتَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا بِحَيْثُ لَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ بُطْلَانَ الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مِنْ أَصْلٍ يُبْنَى عَلَيْهِ فَرْعٌ إلَّا وَيَكُونُ عِلَّةُ ذَلِكَ الْأَصْلِ مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَبِمَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْيِسَةِ؟

قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ تَكُونُ الْعِلَّةُ نَتِيجَةَ الْحُكْمِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ مَاذَا فِي الرِّبَا؟ هَلْ هِيَ الطُّعْمُ أَوْ الْكَيْلُ؟ وَحُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَلِ اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إلَّا أَنَّهُمْ نَازَعُوا بَعْدَهُ فِي عِلَّةِ هَذَا الْحُكْمِ. وَلَوْ قَدَّرْنَا فَسَادَ هَذِهِ الْعِلَلِ بِأَسْرِهَا لَمْ يَبْطُلْ الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ نَتِيجَةَ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، فَلَوْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ بَطَلَ الْحُكْمُ، كَقَوْلِنَا فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ: ابْنُ فُلَانٍ يَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ نَتِيجَةُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَا تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا، وَلَوْ قَدَّرْنَا بُطْلَانَ هَذِهِ الْعِلَّةِ بَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>