يقولون هذا القول ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأى عين (إِمَّا الْعَذابَ) في الدنيا؛ وهو غلبةُ المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسراً، وإظهارُ الله دينه على الدين كله على أيديهم؛ وإما يوم القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال، فحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه، وأنهم (شرٌ مكانا وأضعف جندا)، لا خيرٌ مقاماً وأحسن نديًّا، وأن المؤمنينَ على خلاف صفتهم. والثاني: أن تتصل بما يليها. والمعنى: أن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم. والخذلان لاصق بهم لعلم الله بهم، وبأن الألطاف لا تنفع فيهم وليسوا من أهلها. والمراد بالضلالة: ما دعاهم من جهلهم وغلوهم في كفرهم إلى القول الذي قالوه. ولا ينفكون عن ضلالهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة ومقدّماتها. فإن قلت:(حتى) هذه ما هي؟ قلت: هي التي تحكى بعدها الجمل. ألا ترى الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله:(إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ)(فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) في مقابلة (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)؟
وظهر من هذا أن حمل قوله:(فَلْيَمْدُدْ) على الأمر للاستمرار أولى من الدعاء، وتصريحُ "قل" لبيان الاهتمام، وأن سُنة الله جاريةٌ على هذان وأما إذا اتصل "حتى" بقوله: (مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ) فيكون قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أمراً بالجواب عن قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً) المعنى: أنكم تفتخرون على الفقراء بما نلتم من الحظوظ الدنيوية وتزعمون أنها كرامةٌ من الله، وما تدرون أن ذلك استدراجٌ وإملاءٌ وإمهال، فتزدادوا بها إثماً فيأخذكم عذابُ الاستئصال في الدنيا وعذاب النار في العقبى، فيكون قوله:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً) مُعترضة.
وإنما لم يقُل: خيرٌ أثاثاً، كما قيل في الفواصل الثلاث اللاتي هذه الجملة معترضةٌ فيها، لأن ما عليه المشركون شر كله، ولا يليق بظاهر حالهم إلا أن يُقال:"أحسنُ"، وإنما أتى في الفاصلة الأخيرة بالخير للمشاكلة ومطابقة الجواب على السؤال، ولو حمل (فَلْيَمْدُدْ) في هذا الوجه على الدعاء لكان له وجهٌ.