[حكم الألقاب في الإسلام]
نقف هنا في بحث حول ألقاب المحدثين التي تحمل معنى مذموماً، فهناك بعض الناس أنكر هذا وعده من الغيبة المحرمة، وقال: لا ينبغي أن يلقب الرجل إلا بلقب مستحسن، أو لقب هو يقره، أما أنه ينكره فلا؛ فإن هذا غيبة محرمة، فهل يا ترى ألقاب المحدثين أو ألقاب العلماء أو سائر الناس التي تحمل معنى مذموماً هل هي محرمة؟ وهل تعد من الغيبة أم لا؟ الجواب: أن هذا لا يعد من الغيبة، وقد استثنى العلماء أجناساً لم يعدوها غيبة محرمة، وإنما ساروا مع القصد، ونظم أحد العلماء هذه الأجناس الستة في قوله: القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر (متظلم) : لو أن جارك ظلمك أو غيره ظلمك فذهبت إلى القاضي، فقلت: إن هذا الرجل فعل بي كذا وكذا، وكشف ظلمه للقاضي مع أن هذا الظالم يكره أن يعرفه الناس، فإن هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، حتى وإن كرهه صاحبه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام (سئل عن الغيبة، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ، فهو إن قال الحقيقة فهو مغتاب، وإن قال غير الحقيقة فهو مفترٍ، وهذا الذي ظلمك وذهبت إلى القاضي وقلت فيه ما قلت مما يكرهه صاحبه، أليس فيه ما قلت؟ بلى هو فيه، أليس النبي عليه الصلاة والسلام قضى أن هذا غيبة؟ بلى قضى أن هذا غيبة، لكن العلماء قالوا: لابد إذا أردت أن تحكم بشيء أن تجمع شتات الأدلة ثم تصدر الحكم، لا تأخذ حديثاً واحداً أو آية واحدة وتبني عليها الحكم.
السنة مبيّنة والنبي عليه الصلاة والسلام قد يقول الشيء الجزئي يرد به على شخص، مثلما جاءه رجل وسأله عن الإسلام؟ فقال: (أن تطعم الطعام، وتفشي السلام، وتصلي بالليل والناس نيام) فهل هذا هو الإسلام؟! أم أن هذا من الإسلام؟! مع أن الرجل سأل عن الإسلام، الجواب هنا خرج عن جزئية يسيرة في الإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجيب الرجل على مقتضى حاله.
إذا كان هناك شخص ضرب أباه، وجاء إليك -وأنت تعلم حاله مع أبيه- وقال: دلني على عمل إن فعلته دخلت الجنة؟ فقل له: لا تضرب أباك وأحسن إليه تدخل الجنة، نزل الكلام على مقتضى حال السائل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يجيب على مقتضى حال المخاطب، وهذا مما تعلمناه من هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته) ، لكن نحن لدينا أدلة تخصص هذا، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة: (استأذن عليه رجل، فقال: بئس أخو العشيرة) ، لو سمع الرجل هذا الكلام هل سيغضب؟! لاسيما أن هذا الكلام لا يندمل جرحه، من جرحه الله ورسوله لا يستطيع أحد قط أن يرفع له قائمة.
(كان النبي عليه الصلاة والسلام مع جماعة من الصحابة وهم يرمون، فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فالآخرون توقفوا، فقال: ما لكم؟ قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟! فقال: ارموا وأنا معكم جميعاً) .
(فلما دخل الرجل بسط النبي صلى الله عليه وسلم له في الكلام وألانه له، فـ عائشة رضي الله عنها رأت وسمعت، فلما انصرف الرجل، قالت: يا رسول الله! قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، قال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه) .
فالمسألة إذاً مدارها على النية، فمن قصد بكلامه التنقيص والتحقير، فهذه هي الغيبة المحرمة، أما من قصد أن يدفع ظلماً عنه، أو يعرف بغير قصد التنقيص فلا يكون ذلك داخلاً في الغيبة المحرمة.
الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يبني المسجد قال لـ عمار: (ويحك يـ ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ولا شك أن الإنسان إذا نسب إلى أمه فسوف يغضب، ولكن هذا من باب التشريف، وليس من باب التعيير، فلو كان من باب التعيير لكان حراماً، أما إذا كان من باب التشريف والتعريف فيجوز ذلك، ولا يكون غيبة محرمة، وعلى هذا تحمل جميع الألقاب التي ظاهرها الذم.
مثل: الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وهو من أشهر الرواة عن أبي هريرة، وكذلك عاصم بن سليمان الأحول، وكان أحول فعلاً، سليمان بن مهران الأعمش، كان في عينيه عمش، وكان يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، ولكن الله رفعه بالعلم، وغندر لقب لـ محمد بن جعفر الذي لقبه به ابن جريج، وغندر بلغة أهل الحجاز المشاغب، وكذلك صالح جزرة واشتهر بين الحفاظ بـ جزرة؛ لأنه كان في درس من الدروس فسأله الشيخ إلى أي حديث وصلنا؟ فقال: إلى حديث الجزرة، وهو حديث الخرزة، فصار جزرة لقباً عليه.
فكل الألقاب التي خرجت على سبيل التعريف لا يعد قائله مغتاباً، أما إذا كان على سبيل الانتقاص فهذا حرام، لحديث عائشة رضي الله عنها لما قالت للنبي عليه الصلاة والسلام في صفية: (حسبك من صفية أنها قصيرة، قال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أحب أن يكون لي كذا وكذا وأني حاكيت إنساناً) حرم بهذا أن يحاكي المرء غيره في الكلام.
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه ابن ماجة مختصراً، ورواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكي نبياً من الأنبياء أدمى الناس وجهه) قال ابن مسعود: (وجعل يحكي النبي) أي: يمثله، وهو يمسح الدم ويتقي الناس، فلا بأس أن يحكي إذا لم يقصد التنقيص.
إذاً: هذا هو الضابط ما بين الغيبة المحرمة وما بين القول، سواء كان تظلماً، أو كان إنسان يعرف، أو كان إنسان يستشكل على نحو ما سأذكره تفصيلاً بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.