الحتمية البيولوجية التي يتحرك في إطارها لا يوجد مجال لقبول البعض ورفض البعض الآخر، فالطبيعة هي كل ما هناك وعلينا قبولها والإذعان لها! وقد طلبت من تشومسكي أن يُفسِّر لي ظاهرة ما بعد الحداثة في الغرب، وهي فلسفة تقف على طرف النقيض من فلسفته، فهو يؤمن بمعجزة اللغة ومقدرة الإنسان على توليد نظم اتصالية تستند إلى إنسانية مشتركة، أما ما بعد الحداثة فتؤدي إلى انفصال الدال عن المدلول وإلى عطب اللغة واستحالة التواصل ومن ثم إلى انسحاب العقل واستحالة إقامة العدل. وكان الهدف من السؤال أن أُبيِّن له أن النظم الفلسفية المادية يمكن أن تؤدي إلى أي شيء، وأن إيمانه بالإنسان، النابع من إيمانه بمعجزة اللغة، هو إيمان نابع من شيء كامن في الإنسان، ولكنه مُتجاوز للنظام الطبيعي (أي نابع من ثنائية مبدئية) . فكان رده هذه المرة جافاً وصارماً إذ قال: إن ما بعد الحداثة نتاج ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون على المقاهي يضيِّعون وقتهم فيما لا يفيد!
وأخيراً، أثرت مع تشومسكي قضية الدين والأدب والفن، وأنه رغم حديثه المستمر عن الإبداع لا يعالج إلا السياسة (وبشكل مباشر) في كتاباته السياسية، أما كتاباته اللغوية فهي لا تتعرض أبداً لأية نصوص أدبية، والنص الأدبي نص لغوي مكثف يبيِّن معجزة اللغة عن حق. فقال إنه قد سمع هذا النقد من قبل ولعل انشغاله بالسياسة هو السبب (وهو تفسير غير كاف في تصوري) . أما فيما يتصل بالدين فقد قال إنه لم يمكنه قط أن يتعامل مع فكرة الإله أو ما وراء الطبيعة ولا يمكنه أن يفهمها، وأن مناقشة مثل هذه الأمور أمر لا طائل من ورائه. وأعتقد أن إهماله الدين والأدب والفن نابع من حتميته البيولوجية الواحدية، ولذا فهو يؤثر الابتعاد عن الحقول المعرفية التي يمكن أن تثير له أسئلة تقع خارج نطاق نموذجه المعرفي.