للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٢ ـ تزايدت معدلات التجريد في المجتمع، ومن المعروف أن عمليتي التجريد والترشيد هما عمليتان متلازمتان، إذ لا يمكن الترشيد دون تجريد، أي نزع الصفات الخاصة عن الشيء والتركيز على الصفات العامة فيه والتي تجمع بينه وبين الأشياء الأخرى حتى يتسنى استيعابه داخل الآلة الاجتماعية. ويؤدي التجريد إلى ابتعاد الواقع الحي بحيث لا يدركه المرء بشكل مباشر متعين له قيمة، إذ يصبح شيئاً له مواصفات محددة يمكن تقسيمه إلى أجزاء يمكن استبدال بعضها، وينطبق هذا على البشر انطباقه على الأشياء. ويرى أورتيجا جاسيت أن عملية التجريد مرتبطة تمام الارتباط بعملية نزع الصبغة الإنسانية (بالإنجليزية: دي هيومانايزيشن dehumanization) .

وقد نجحت عمليات التجريد المتزايدة في جعل القيمة الأخلاقية شيئاً بعيداً للغاية لا علاقة له بفعل الإنسان المباشر. ولنضرب مثلاً من صناعة الأسلحة الكيماوية الفتاكة: تُقسَّم عملية إنتاج المبيد البشري إلى عدة وظائف صغيرة، كل وظيفة تُشكِّل حلقة تؤدي إلى ما بعدها وحسب. ولأنها مجرد حلقة، فهي محايدة تماماً ولا معنى لها، إذ لا يوجد أي مضمون خلقي لعملية إضافة محلول لآخر. ومن ثم، تظل النهاية الأخلاقية (حرق البشر وإبادتهم) بعيدة للغاية. والعامل أو الموظف المسئول عن هذه الحلقة سيبذل قصارى جهده في أداء عمله الموكل إليه دون أية أعباء أخلاقية، ومن ثم تستمر الآلة الجهنمية في الدوران من خلال الحلقات والتروس، ولا يتحمل أي شخص مسئولية إبادة البشر، إذ أن مسئولية العامل أو الموظف مسئولية فنية تكنوقراطية وليست مسئولية أخلاقية.

<<  <  ج: ص:  >  >>