للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} (١). وأكثرُ النَّاسِ على أنَّها نَزلَتْ، وعليه الأخبارُ المشهورة.

رويَ عن سلمان الفارسيِّ رضي اللَّه عنه أنَّه قال: إنَّ الحواريين سألوا عيسى عليه السلام أنْ يَسألَ اللَّه أنْ يُنَزِّلَ لهم مائدةً، فقام عيسى ابنُ مريمَ، وألقى الصُّوفَ عنه، ولبسَ جبَّةً مِن شعر، ولحافًا مِن شعر، ثمَّ وضعَ يمينَهُ على شِماله، وصفَّ بين قدميه وألزق (٢) كعبَ إحدى قدميه مع الأخرى، وسوَّى الإبهامَ مع الإبهام، وطأطأَ رأسَهُ خاشعًا للَّه تعالى، وأرسلَ عينيه بالبكاءِ حتَّى سالَت الدُّموعُ على لِحيتِه وصدرِه، وهو يَدعو ويتضرَّعُ إلى ربِّه، ثمَّ قال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.

فنزلَتْ سفرةٌ حمراءُ بين غمامَتين؛ غمامةٍ فوقَها، والأُخرى تحتَها، منقضَّةٌ في الهواءِ، والنَّاسُ يَنظرون إليها، وعيسى عليه السلام يَبكي، ويقولُ: إلهي، اجعلْها رحمةً، ولا تَجعلها عذابًا، إلهي، كم أسألُك من العجائبِ فتُعطيني، إلهي، أعوذُ بك أنْ يكونَ نزولُها غضَبًا ورِجْزًا، وأسألُك أنْ تَجعلَها عافيةً وسلامة، ولا تَجعلْها مُثلةً أو فتنة.

فما زال يَدعو ويَتضرَّعُ حتَّى استقرَّت بين يدي عيسى عليه السَّلام، والنَّاسُ حولَهُ يَجِدونَ طيبَ ريحِها، لم يَجدوا قطُّ ريحًا أطيبَ منها، فخرَّ عيسى ساجِدًا، وخرَّ (٣) الحواريُّون معَه.

وبلغَ ذلك اليهود، فأقبلوا مَغمومين مَكروبين، ونَظروا إلى أمرٍ معجِبٍ، فإذا سُفرةٌ مغطَّاةٌ بمنديلٍ، فرفعَ عيسى رأسَه، واستوى قاعدًا، فقال: لينظر مَن كان خيرَنا، وأحسنَنا عملًا عند ربِّه وأوثَقَنا بنفسِه؛ فليَكشِفَ عن هذه الآيةِ حتَّى نَنظرَ إليها، ونحمدَ إلهَنا عليها، ونأكلَ مِنها، فقال الحواريون: فأنتَ أوْلانا بذلك، وأحقُّنا يا روحَ اللَّه وكلمتَه،


(١) انظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (٣/ ٦٥١).
(٢) في (أ): "وألقى".
(٣) في (أ) و (ف): "وسجد".