الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضًا جوعًا وعطشًا، كما هلك أرباب تلك الطُّرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب.
وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين: حزبًا يقولون: الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نُصبوا له دون غيرهم. وحزبًا يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق. فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال، وانتشر القيل والقال.
وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء، وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين، فهلك الحجيج، وكثر الضجيج، وعظم البكاء والنشيج، واضطربت الآراء، وعصفت الأهواء، وصار حالهم كحال قوم سَفْر نزلوا في ليلة ظلماء، فهجم عليهم عدو وهم نيام، فقاموا في ظلمة الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلًا، ولا يتَّبعون دليلًا!
وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء: خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق، ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق. فهل يكون مَن فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل، أو أرشدهم إلى اتِّباع الدليل، أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفقُ على رعيته الناصحُ لهم؟ وهل هذا مطابق لقول الدليل:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ}[الأعراف: ٩٢] وقوله: {وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اَللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف: ٦١] وقوله: {أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}[الأعراف: ٦٧]؟ فأين النُّصح والأمانة على قول المعطلين النُّفاة؟!