للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضوء لتلك الشوارع التي ساد السكون فيها، من تلك الشوارع ما خر سقفه، ومنها ما هو قائم السقف حتى الآن رغما عن التخريب الذي استأصل شأفة تلك المحاسن، وغير ماء بهجتها الذي كان غير آسن، فمع الأسف خلعت تلك المباني حلل الزينة وتوحشت بعد الأنس تلك الربوع، وأخنى الدهر بجديدها، وتولى متسلط النحس على سعيدها، فانتثر عقد نظامها وتفرقت أنقاضها في أقطار المغرب وبنيت منها المساجد والمدارس والرباطات والدور حسبما أفصح بذلك أبو القاسم الزياني في روضته وحفظته لنا تقاييد أسلافنا الكرام، وتلقيناه عمن تلقاه منهم وكشطت حلل تلك الجدرات التي طالما جرت على المتطاول ذيول الإعجاب وبدت عيون كواتها العديدة التي جفت جفونها المنام، لما دهاها حال اطمئنانها من الاغتيال وحق لمن بقي به رمق بعد أن أخذ على حين غفلة أن يتنبه، وبأعين النجوم في السهر يتشبه، وقد حفر هطال دموع تلك العيون في خدود تلك الجدرات أخدودا أسفر عن كونه كان وعاء لقنوات مجارى ماء الأمطار المنسدلة من أعلى السطوح إلى أسفل الوادي الساري في تخوم الأرض.

وقد أحاط هذه الدار العظيمة المقدار التي هي في الحقيقة مدينة بالأسوار الضخمة الشاهقة والأبراج والسقائل حتى صارت كأنها مركز حربي هائل. وَلاَ فَنَدَ (١) إذا قلت: كانت مركزا حربيا من أعظم مراكز العالم الحربية، وقد أدركنا بقية أعمدة الرخام وكراسيه التي كانت محمولة عليها مباحات القصور الملوكية متراكما بعضها فوق بعض، منها ما هو ظاهر، ومنها ما غطاه الثرى يعثر عليه بالحفر، وقد كان الكثير من ذلك ملقى بباب قصر المحنشة، ولم يزل كذلك إلى أن دخلت الدولة الحامية فنقلت بعضه لدور كبراء موظفيها، والبعض الآخر للجنان العمومي الذي أحدثته بالمحل المعروف بالحبول -بفتح الحاء- وقد تلقينا من آبائنا


(١) فَنَدَ فَنَدًا: ضعف رأسه من الهَرَم، وكَذَبَ، وأتى بالباطل.

<<  <  ج: ص:  >  >>