ومنهم من كلم الله على ما هو المعروف من أحوالهم وقد قال الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة: ٢٥٣] فإن قيل إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهى عن التفضيل وكيف لا يقول من هو في درجة عليا أنا خير من فلان لمن هو دونه على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح، فالجواب أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ لا المعنى من اعتقاد معناه أدبًا مع يونس - عليه السلام - وتحذيرًا من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ.
وإنما خُص يونس بالذكر في هذا الحديث لأنه لما دعا قومه للدخول في دينه فأبطؤوا عليه ضجر واستعجل بالدعاء عليهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث ليال، وفر منهم فرأى قومه دخانًا ومقدمات العذاب الذي وعدهم فآمنوا به وصدقوه وتابوا إلى الله تعالى فردوا المظالم حتى ردوا حجارة مغصوبة كانوا بنوها ثم إنهم فرقوا بين الأمهات وأولادهم ودعوا الله تعالى وضجوا بالبكاء والعويل وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه لم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين وهم أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة ثم إن يونس ركب في سفينة فسكنت ولم تجر فقال أهلها: فيكم آبق؟ فقال: أنا فأبوا أن يكون هو الآبق فقارعهم فخرجت القرعة عليه فرُمي في البحر فالتقمه حوت كبير فأقام في بطنه ما شاء الله تعالى، وقد اختلف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى ويسبحه إلى أن عفا الله عنه فلفظه الحوت في ساحل لا نبات فيه وهو كالفرخ فأنبت الله تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين فسترته بورقها، وحكى أهل التفسير أن الله تعالى قيض له أروية -الأنثى من الوعول- ترضعه إلى أن قوي فيبست الشجرة فاغتم لها وتألم فقيل له: أتغتم وتحزن لهلاك شجرة ولم تغتم على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ وقد دل على صحة ما ذُكر قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} الآيات إلى آخرها [الصافات / ٣٩ ١ - ١٤٨] وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن للنبوة أثقالًا وإن يونس تفسخ -ضعُف- تحتها تفسخ الربع -ولد الناقة-" أو كما قال، رواه الحاكم [٢/ ٥٨٤]، والقاضي عياض في الشفا [١/ ٤٤٢ - ٤٤٣].
"قلت": ولما جرى هذا ليونس - عليه السلام - وأطلق الله تعالى عليه أنه {مُلِيمٌ} أي أتى لما يلام عليه قال على لسان نبيه "ولا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس" لأن