يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس من الليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظِّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتملل تملل السليم (اللديغ والجريح أشرف على الهلاك كأنهم يتفاءلون له بالسلامة) ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غرّي غيري، إلي تعرضت أم إليّ تشوفت، هيهات هيهات، قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة بعدها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آهٍ، من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن كان والله كذلك كيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.
[قلت]: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته وعظيم حقه ومكانته وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه لما كان معاوية موصوفًا به من الفضل والدين والحلم وكرم الأخلاق، وما يُروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا التراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسب وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك أو نقيضه كما قد ظهر من جوابه ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن وعرف الحق لمستحقه، ولو سلمنا أن ذلك من معاوية حمل على السب فإنه يحتمل أن يكون طلب منه أن يسبه بتقصير في اجتهاده في إسلام عثمان إلى قاتليه أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل، وأما التصريح باللعن وركيك القول كما قد اقتحمه جهال بني أمية وسفلتهم فحاش معاوية منه، ومن كان على مثل حاله من الصحبة والدين والفضل والحلم والعلم والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ من المفهم.
وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب من الأحاديث ستة: الأول: حديث سعد بن أبي وقاص ذكره للاستدلال به على الترجمة وذكر فيه أربع متابعات، والثاني: حديث