بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أو بعض يوم فيعرف منه ما يكفي لصحة إسلامه، ثم يرجع إلى قومه داعياً إليه ومعلّماً، لأن الدين كان يؤخَذ من منابعه وكان مقترناً بالحياة ممتزجاً بها يبيّن حكم كل عمل من أعمالها؛ كذلك كان تعلم العربية، كان سهلاً لأنه يعتمد على إحياء المَلَكة وأخذ الطالب بحفظ الفصيح، فيتعلم العربية كما يتعلم الطفل الكلام. فلا النحو ينفصل عن شواهده وفهمها وإدراك بلاغتها، ولا الفقه يبتعد عن أدلته وفقهها والعمل بها.
ولقد كان هذا ممكناً لو كانت لغتنا، التي نديرها على ألسنتنا ونستعملها في مطالب حياتنا وفي تفاهمنا فيما بيننا، هي اللغة الفصيحة. ولم أقل «الفصحى» لأن الفُصحى مؤنث الأفصح، وأفصح لغات العرب هي التي نزل بها القرآن، وإطلاق لفظ الفصحى على كل كلام صحيح فصيح فيه من الغلوّ والمبالغة الكثير.
وقد قلت الصحيح الفصيح، إذ ما كل صحيح يكون فصيحاً، ففي العربية مثلاً فعل «حَبَّ» الثلاثي، وهو بمعنى «أحبّ» الرباعي، فاسم الفاعل منه حابٌّ بمعنى مُحِبّ، ولكن كلمة «حابّ» متروكة مرذولة وكلمة «مُحِبّ» مسلوكة مقبولة. أما اسم المفعول فلا يأتي إلا من الثلاثي. هل سمعتم شاعراً مطبوعاً بدلاً من أن يقول: أنا المحب وأنت المحبوب، يقول: أنا الحابّ وأنت المُحَبّ؟
لذلك كان من شروط فصاحة الكلمة أن تكون خالية من الغرابة، وأن تكون واضحة المعنى سائرة على ألسنة البلغاء. أما الذين يغوصون في أعماق القاموس المحيط ليستخرجوا منه