قال الطيبيّ رحمه الله تعالى: لا شكّ أن قوله: "وهو محقّ" حال من فاعل "ترك" وقع تتميمًا للمعنى، ومبالغةً. وقوله:"من ترك الكذب، وهو باطلٌ" قرينة له، فينبغي مراعاة هذه الدقيقة. فالمعنى: من ترك الكذب، والحال أنه عالمٌ ببطلانه في أمور الدين، لكن سنح له فيه منفعة دنيويّة، فتركها كسرًا لهواه، وإيثارًا لرضي الله تعالى على رضاه، بُني له بيتٌ في ربض الجنّة. ولمّا كانت مكارم الأخلاق متضمّنةً لترك رذائلها، وللإتيان بمحاسنها عقّبهما بقوله:"ومن حسّن خلقه" تحليةً بعد التخلية.
قال الشيخ أبو حامد الغزاليّ رحمه الله تعالى: حدّ المراء: الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما لفظًا، أو معنًى، أو في قصد المتكلّم، وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض، فكلّ كلام سمعته، فإن كان حقّا فصدّق به، وإن كان باطلًا، ولم يكن متعلّقًا بأمور الدين، فاسكت عنه. انتهى. (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "فاسكت" أراد فيما إذا كان ذلك الباطل متعلّقًا بشخصيّته مثلًا، كأن يسبّه، ويَعيبه، فيتجاوز عنه، ولا يردّ عليه بالمثل، وإن كان له الحقّ في ذلك، كما قال سبحانه وتعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ}[الشورى: ٤١]، بل صفح، وعفا إيثارًا لما هو الأفضل كما قال عز وجل:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى: ٤٣]، وقال عز وجل:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}[الفرقان: ٦٣]، لا أنه يسكت على ما يسمعه من الباطل مطلقًا، يدلّ على ذلك قوله:"ولم يكن متعلّقا بأمور الدين". والله تعالى أعلم.
(بُنِيَ لَهُ في وَسَطِهَا) بفتحتين، قال في "القاموس": وَسَط الشيءِ محرّكةً: ما بين طرفيه، كأوسطه، فإذا سُكِّنَت كانت ظرفًا، أو هما فيما هو مُصْمَتٌ كالحلْقَة، فإذا كانت أجزاؤه مُتباينةً فبالإسكان فقط، أو كلُّ موضع صلح فيه "بَيْنَ" فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك. انتهى. والمعنى: بُني له بيتٌ في وسط الجنّة؛ لتركه كسر قلب من يُجادله،