للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها حرية العلم والتعليم والتأليف. ولقد ظهرت هذه الحرية في أجمل مظهر في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإِسلام، إذ نشر العلماء فتاواهم ومذاهبهم، واحتج كل فريق لرأيه، ولم يكن ذلك موجباً لمناوأة ولا لحزازات. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه" (١). وهذا هو المقام الذي تحقق فيه مالك بن أنس حين قال له أبو جعفر الخليفة: إني عزمت أن أكتب كُتُبك يعني الموطأ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها. فقال الإِمام: "لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم [وعملوا به ودانو له] من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإنّ ردهم عما اعتقدوه شديد. فدع الناس وما هم عليه [وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم] (٢) ".

ولولا اعتبار حرية الأقوال لما كانت الإقرارات والعقود والالتزامات وصيغ الطلاق والوصايا مؤثّرةً آثارها. ولذلك يسلب عنها التأثير متى تحقق أنها صدرت في حالة الإكراه.

وأما حرية الأعمال فهي تكون في عمل المرء في خويصته، وفي عمله المتعلّق بعمل غيره. فأما الحرية الكائنة في عمل المرء في الخويصة فهي تَدْخل في تناول كل مباح. فإن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل، إذ ليس لأحد أن يمنع المباح عن أحد، إذ لا يكون أحد أرفق بالناس من الله تعالى.


(١) تقدم تخريجه: ١٣٩/ ١.
(٢) عياض. ترتيب المدارك: ٢/ ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>