للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسر هو العاني، ثم إذا شاء الذين أسروه إبقاء حياته جعلوه عبداً يخدمهم ولا يتصرّف إلَّا على حسب إرادتهم، وجعلوا ذلك الوصف قابلاً للنقل من يد إلى يد. فكان القوم الذين يأسِرون الأسيرَ ربّما دفعوه إلى قوم آخرين لهم معه إحن وترات ليقتلوه أو يعذّبوه بالخدمة، وربّما باعوه فانتفعوا بثمنه فصار عبداً لمن دفع فيه الثمن.

المعنى الثاني ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكّن الشخص من التصرّف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض. ويقابل هذا المعنى الضربُ على اليد، أو اعتقالُ التصرّف. وهو أن يُجعل الشخصُ الذي يسوء تصرُّفه في المال، لعجز، أو لقلة ذات يد، أو لقلة كافٍ، أو لحاجة، بمنزلة العبد في وضعه تحت نير إرادة غيره في تصرّفه، بحيث يسلب منه وصف إباء الضيم ويصير راضياً بالهون.

وكلا هذين المعنيين للحريَّة جاء مراداً للشريعة إذ كلاهما ناشئ عن الفطرة، وإذ كلاهما يتحقّق فيه معنى المساواة التي تقرّر أنها من مقاصد الشريعة. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: "بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" (١)، أي: فكونهم أحراراً أمرٌ فطري.

فأمّا المعنى الأول فإطلاقه في الشريعة مقرر مشهور. ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: "الشارع متشوِّف للحرية" (٢). فذلك استقراؤه


(١) ابن الجوزي. مناقب عمر بن الخطاب: ٩٨ - ٩٩. وانظر: ٣٨٣/ ١.
(٢) بيان هذه القاعدة يأتي مفصلاً فيما ذكره المؤلف إثر تقريرها من قوله: "فذلك استقراؤه" إلى نهاية الفصل في بيان أنواع الحرية، فقد أورد من تطبيقات هذه القاعدة في الإِسلام: تعطيل الشريعة الاسترقاق، ومعالجتها للرق الموجود بتكثير أسباب رفعه، والترغيب في عتق العبيد، والنهي عن =

<<  <  ج: ص:  >  >>