ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض، كان جديرًا بأن لا يخرج عن أصله، بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه، فإن العبد لو ترك طبعه ودواعي نفسه لتكبر وأشر، وخرج عن أصله الذي خلقه منه، ولَوثبَ على حق ربه من الكبرياء والعظمة، فنازعه إياهما، وأُمر بالسجود خضوعًا لعظمة ربه وفاطره، وخشوعًا له وتذللا بين يديه، وانكسارًا له فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردًا له إلى حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله.
فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه، وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه، وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعًا بين يدي ربه الأعلى، وخشوعًا له وتذللا لعظمته واستكانة لعزته، وهذا غاية خشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أُمُّهُ وأبوه وأصله وفصله، ضمته حيًا على ظهرها، وميتًا في بطنها، وجُعلت له طهرًا ومسجدًا فأمر بالسجود، إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعًا وخضوعًا وإلقاء باليدين.
وقال مسروق لسعيد بن جبير: ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في هذا التراب له (١).