فأما القائلون بجواز تأخير البيان على الإطلاق فإنهم يعتمدون على أن تصور هذا ممكن متأت، ولا بعد في العقول في أن السيد يقول لعبده: اصنع لي غدا طعاما، ثم يبين في غد جنس الطعام الذي يصنع له.
وإنما منع المانعون تأخير البيان، لأنهم قدروا تضمنه إحالة، لا لكونه في نفسه محالا، واختلفت عبارتهم عن وجه الإحالة، فمنهم من يشير إلى أن تأخير البيان يصير الخطاب المشكل كالعدم، أو كخطاب الميت، أو كخطاب الزنجي بالعربية.
ومنهم من يشير إلى كون هذا الخطاب إغراء بالجهالة، وتسليط الغلط، ومنهم من يشير إلى كونه مهجنا للخطاب، مفسدا للغة، كما يهجن الخطاب تأخير الاستثناء، ويفسد اللغة، ومنهم من [يشير] إلى الاستصلاح الواجب على الله سبحانه للعباد، وهؤلاء هم المعتزلة، وأصلهم غير مسلم كما قررناه مرارا، على أنا لو [سلمنا] لهم لم يبعد كون الاستصلاح في تأخير التعيين، وربما كان تقدمه مفسدة، وتأنيس الطبع به، وتدرجه عليه (ص ٤٩) أقرب إلى الصلاح.
وأما من جعل الخطاب كالعدم فباطل، لأنه موجود حسا، ومن شبهه بخطاب الموتى فباطل، لأن الميت لا يفهم جملا ولا تفصيلا، وهذا يفهم على الجملة، ويعلم أنه مكلف عبادة، وينتظر بيانها له، فهو مطيع في تصديقه، وعازم على فعلها عند البيان، ويتوقع البيان، والميت لا يتوقعه.
وتشبيههم بخطاب الزنجي باطل أيضًا لما قررناه من كون الزنجي لا يفهم جملة وتفصيلا هذا على أن نجوز خطاب الزنجي بالعربية بشرط بيانها له، وقد كلف النبي عليه السلام، أمته امتثال ما جاء به للعجم، كما كلفه للعرب، ولم يقبح ذلك لكونه يترجم لهم عنه، على أن هذا الإعلال تتوجه المطالبة به على من احتج به، وذلك أن المانعين لتأخير البيان لا ينكرون ورود الخطاب بالمشكل إذا قارنه بيان، وخطاب الميت لا يحسن ولو قارنه البيان، وخطاب الزنجي حسن، والبيان واقع عقيبه، أو متأخرا عنه، على حد سواء.
وهكذا لو درس فقيه الفقه سائر نهاره بالعجمية، والتلامذة عرب فإن حسن البيان