للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإتيان، ومن لم يطق ذهب به إليه فربما اجتمع عنده الألفان يظهر لهم ذلك، فيداويهم من دون معالجة، وذلك بالدعاء، وهكذا سائر معجزات الأنبياء بقدر علم أهل زمانهم، فإن كان نبي مرسل إلى قومه بمعجزة من جنس ما عاينوه من علم وصناعة وغيرها. ثم بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، وجملة معارف العرب وعلومها أربعة: البلاغة: وهي ملكة يبلغ بها المتكلّم من تأدية المعاني حدا يوزن بتوفيته خاصية كل تركيب حقّها.

والشّعر: وهو كلام موزون مقفى مراد به الوزن.

والخبر والكهانة: الخبر عن الكائنات وادّعاء معرفة الأسرار كان متفشيا فأنزل الله سبحانه عليه القرآن الخارق لهذه الأربعة الفصول من أجل الفصاحة والإيجاز والبلاغة الخارجة عن نوعه وطريقته، وكان العرب يتباهون بالفصاحة، ويتباهون في تحبير الشّعر والبلاغة، وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء، فأنزله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قرآنا عربيا مبينا يشتمل على مذاهب لغة العرب، فتلا عليهم كلاما متشابه الرصف متجانس الوصف، سهل الموضوع، عذب المسموع، خارجا عن موضوع القريض والأسماع مستعذبا لأفهام الأسماع فلما سمعوه استبعدوه فقالوا فيه ما قالوا، فتحدّاهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحدّاهم بعشر سور من مثله فعجزوا، ثمّ تحدّاهم بسورة من مثله، فآلوا عند العجز إلى القتل والقتال، وسبقوا العصور إلى الجحود والجدال، فلمّا عدلوا عن معارضته التي لو تمّت كان يدل على كذبه إلى قتاله الذي لو تم موضعهم فيه لم يدلّ على كذبه كان الإعجاز باديا ظاهرا وعجزهم عن معارضته وانتحاله معلوم، فالقرآن أفضل المعجزات لبقائه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معجز غيره بعد وفاته، آمنّا به، ولأن الأحكام الشرعيّة مستنبطة منه ولم تستنبط من معجز سواه، فالقرآن بحر لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وحكى أبو عبيد: أنّ أعرابيا سمع رجلا يقول فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: ٩٤] ضحك وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع رجلا آخر يقرأ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: ٨٠] فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وحكى الأصمعي: أنّه سمع كلام جارية، وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي، فقلت لها:

لم تستغفرين، ولم يجر عليك القلم؟ قال: فقالت: أستغفر الله لذنبي كلّه: قتلت إنسانا لغير حلّه مثل غزال نائم في دلّه، انتصف اللّيل ولم أصلّه فقلت لها: لماذا تبكي، ما أفصحك، فقالت: أو يعد هذا فصاحة، بعد قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ