وبعد تمام الحديث عن الصحابة وطبقاتهم، بدأ بذكر طبقات التابعين، ومَنْ بَعْدَهم، ولكنه أتى بعامل جديد في التقسيم، وهو العامل الجغرافي، فقسمهم حسب المدن التي استقروا بها، وبدأ بالمدينة النبوية باعتبارها دار الهجرة، وعاصمة الإسلام، والمدينة العلمية الأولى، ثم مكة، فالطائف، فاليمن، فاليمامة، فالبحرين، وهذه كلها في بلاد العرب، ثم الكوفة، والبصرة، وواسط، والمدائن، وبغداد، وخراسان، والري، وهمدان وقم، والأنبار، وهذه كلها في بلاد العراق والمشرق، ثم الشام، والجزيرة، والعواصم والثغور، ثم مصر، وأيلة، وإفريقية، والأندلس.
ولجأ المصنف إلى هذا التقسيم الجغرافي ليحقق غرضا من أغراض تأليف الكتاب، وهو معرفة أهل الفقه والعلم، والرواية للحديث، وأنسابهم، وكُنَاهم، وصفاتهم، طبقة طبقة (١)، في كل بلد، ومعرفة الشيوخ والتلاميذ وتحديد مكان اللقيا، ليعرف اتصال الأسانيد أو انقطاعها.
وفي كل مركز من هذه المراكز، باستثناء المدينة يبدأ بذكر من نزلها من الصحابة ثم بذكر أهل العلم بها الذين أخذوا عن الصحابة، ثم الطبقة التي تليها … وهكذا إلى عصر المؤلف، ويختلف عدد من يترجمهم في كل مدينة من هذه المدن تبعا للأهمية العلمية والثقافية التي وصلت إليها تلك المدينة إلى عهده، وهذا يعطينا صورة واضحة عن تطور الحياة العلمية في الدولة الإسلامية بصفة عامة، وفي كل مدينة ومركز من هذه المراكز، مع معرفة رجال العلم في كل مصر من الأمصار، فمثلا المدينة، ومكة، والكوفة والبصرة، والشام، ومصر، نجد بها كثرة من الفقهاء والمحدثين الكبار من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم وهذا يعني بداية النشاط العلمي وَتَنَامِيه مبكرًا في هذه المراكز، بينما نجد مُدُنا أخرى أقل شأنا منها، إما لكون الحركة العلمية لم تظهر بها مبكرة، أو لكون المصنف لم تتوفر لديه معلومات عن علماء تلك