تَعْلَمُ ذلك من نفسها حتى تُقَدِّمَ جناحَ الدَّاءِ وتُؤخِّرَ جناحَ الشِّفاءِ؟ ! وما أَرَبُهَا إلى ذلك؟
قلتُ: وهذا سؤالُ جاهلٍ أو مُتَجَاهلٍ، وإن الذي يجدُ نَفْسَهُ ونفوسَ عامّةِ الحيوانِ قد جُمِعَ فيها بيْنَ الحرارةِ والبُرُودةِ، والرُّطُوبَةِ واليُبُوسَةِ، وهي أشياءُ متضادةٌ إذا تلاقتْ تفاسَدتْ، ثم يَرَى أن اللهَ سبحانه قد ألَّفَ بينها وقَهَرَهَا على الاجتماعِ، وجعلَ منها قُوى الحيوانِ التي بها بَقَاؤُهَا وصلَاحُهَا؛ لجديرٌ أن لا يُنْكِرَ اجتماعَ الدَّاءِ والشِّفاءِ في جُزْأَينِ من حيوانٍ واحدٍ، وأن الذي أَلهَم النحلةَ أن تتخِذَ البيتَ العجيبَ الصَّنْعَةِ وأن تَعْسِلَ فيه، وأَلهَم الذَّرةَ أن تَكتَسِبَ قُوَّتَها وتَدَّخِرَه لأَوانِ حاجتها إليه؛ هو الذي خَلَقَ الذُّبَابةَ وجعلَ لها الهدايةَ إلى أن تُقَدِّمَ جناحًا وتُؤخِّرَ جناحًا، لما أَرادَ من الابتلَاءِ الذي هو مَدْرَجَةٌ التَّعَبُّدِ، والامتحانِ الذي هو مضمار التكليف، وفي كلِّ شَيءٍ عِبرةٌ وحِكمةٌ، وما يذَّكر إِلَّا أولو الألبابِ)) (معالم السنن ٤/ ٢٥٨ - ٢٥٩).
وقال ابنُ الجوزي:((قد تعجَّبَ قومٌ من اجتماعِ الدَّاءِ والدَّواءِ في شَيءٍ واحدٍ وليسَ بعجيبٍ، فإن النحلةَ تَعْسِلُ من أعلاها وتُلْقِي السُّمَ من أَسْفَلِها، والحيَّةُ القاتِلُ سُمُّها يُدخِلون لحمَها في الدّرياقِ، ويُدخِلون الذُّبابَ في أدويةِ العَينِ، ويَسْحَقُونَهُ مع الإثمدِ ليُقَوِّي البصرَ، ويأمرون بسترِ وجهِ الذي يعضّه الكلبُ من الذُّبابِ، ويقولون: إِنْ وقعَ عليه تعجّل هَلاكُه)) (كشف المشكل من حديث الصحيحين ٣/ ٥٤٧).