للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سُؤال يهود الْمَدِينَة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ يَا مُحَمّدُ أَرَأَيْت قَوْلَك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا}

ــ

رَبّي، وَأَمْرُ الرّبّ هُوَ الشّرْعُ وَالْكِتَابُ الّذِي جَاءَ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ فِي الشّرْعِ وَتَفَقّهَ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ عَرَفَ الرّوحَ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ اُدْخُلُوا فِي الدّينِ تَعْرِفُوا مَا سَأَلْتُمْ فَإِنّهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي، أَيْ مِنْ الْأَمْرِ الّذِي جِئْت بِهِ مُبَلّغًا عَنْ رَبّي، وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطّبِيعَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْفَلْسَفَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الرّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَإِنّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الشّرْعِ فَإِذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ مِنْ ذِكْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السّجْدَةِ ٩] أَيْ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَالنّفْخُ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إلَى مَلَكٍ يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ رَبّهِ وَتَنْظُرُ إلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ وَأَنّهَا تَتَعَارَفُ وَتَتَشَامّ فِي الْهَوَاءِ وَأَنّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّهَا تُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ فَتَفْهَمُ السّؤَالَ وَتَسْمَعُ وَتَرَى، وَتُنَعّمُ وَتُعَذّبُ وَتَلْتَذّ وَتَأْلَمُ وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ فَتَعْرِفُ أَنّهَا أَجْسَامٌ بِهَذِهِ الدّلَائِلِ لَكِنّهَا لَيْسَتْ كَالْأَجْسَادِ فِي كَثَافَتِهَا وَثِقَلِهَا وَإِظْلَامِهَا، إذْ الْأَجْسَادُ خُلِقَتْ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَحَمَإِ مَسْنُونٍ فَهُوَ أَصْلُهَا، وَالْأَرْوَاحُ خُلِقَتْ مِمّا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ النّفْخُ الْمُتَقَدّمُ الْمُضَافُ إلَى الْمَلَكِ. وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ كَمَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَضَافَ النّفْخَ إلَى نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَضَافَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ {اللهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزّمَرِ ٤٢] وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْمَلَكِ أَيْضًا فَقَالَ {قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}

<<  <  ج: ص:  >  >>