وعلى هذا فإننا نَجْزِمُ بأنَّ هذه الحروفَ ذاتَها ليس لها معنًى، لكن إذن يَرِدُ علينا إشكالٌ، إذا قلنا: ليس لها معنًى صار إنزالُها وكلامُ الرَّبِّ بها عَزَّ وَجلَّ عبثًا، واللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى لا يَفْعَلُ شيئًا عبثًا، فنقولُ: ليس بعبثٍ، هي ذاتُها ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى يقترنُ بالتحدي، وهو أن يُقالَ: إنكم أيها العربُ تركِّبون كلامَكم من هذه الحروفِ والقرآنُ لم يأتِ بحرفٍ لم تتكلموا به، بل كُلُّهُ من الحروفِ التي تتكلمون بها، وهذا مثالٌ:(ح)(م)(ع)(س)(ق)، ومع هذا عَجَزْتُمْ أن تأتوا بمثْلِهِ، فيكون بهذا مغزًى عظيمٌ، وهو أنَّ القرآنَ الذي أَعْجَزَكُم أيها العربُ مع أنكم أئمَّةُ الفصاحةِ، هل أتى بحروف جديدة، تقولون: واللهِ لا نعرف هذه الحروف، أو هو من الحروفِ التي أنتم تنطقون بها؟ فالجوابُ: الثاني ومع ذلك أَعْجَزَكُم.
ويدُلُّ لهذا المغزى الذي أقرَّهُ شيخُ الإسلامِ (١) رَحِمَهُ اللَّهُ ومن سَبَقَه ومن لَحِقَه، يدُلُّ على هذا: أنك لا تكادُ تجدُ سورةً مبدوءةً بهذه الحروفِ إلا وبعدها ذِكْرُ القرآنِ الكريمِ، أو ذِكْرُ ما لا يُمْكِنُ إلا بوحيٍ، ننظرُ الآنَ:{الم}[البقرة: ١]، في أوَّلِ البقرةِ بَعْدَهَا:{ذَلِكَ الْكِتَابُ}، وفي آلِ عمر {الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمرانَ: ١ - ٣]، و {المص}[الأعراف: ١]{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} وهلمَّ جرًّا، ليس هناك إلا سورتان أو ثلاثٌ، لكنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّ الذي يلي هذه الحروفَ لا يتأتَّى العلمُ به إلا عن طريقِ الوحيِ.
فقولُهُ: {حم (١) عسق} نقولُ في تفسيرِها: هذه حروفٌ هجائيَّةُ ليس لها معنًى، لكن لها مغزًى.
قال المُفسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{كَذَلِكَ} أي: مثلَ ذلك الإيحاءِ {يُوحِي إِلَيْكَ} وأوحى