للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيكون قد عطَّل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل" (١). سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا. أفاده الإمام ابن تيمية. عليه الرحمة، في القاعدة التدمرية. والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: ٩٠]، " أي: ولهم عذاب شديد مع الإِهانة والإِذلال" (٢).

قال البيضاوي: " يراد به إذلالهم، بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه" (٣).

قال الثعلبي: أي" وللجاحدين [لدين] محمّد صلّى الله عليه وسلّم من النّاس كلهم، {عَذابٌ مُهِينٌ}، يهانون فلا يعزون" (٤).

قال مقاتل بن حيان: " يعني بالمهين الهوان" (٥).

قال السعدي: أي: عذاب "مؤلم موجع، وهو صلي الجحيم، وفوت النعيم المقيم، فبئس الحال حالهم، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله، الكفر به، وبكتبه، وبرسله، مع علمهم وتيقنهم، فيكون أعظم لعذابهم" (٦).

وقيل أن (العذاب) على ضربين (٧):

أحدهما: عذاب مهين: وهو عذاب الكافرين، لأنه لا يمحص عنهم ذنوبهم.

والثاني: عذاب غير مهين: وهو ما كان فيه تمحيص عن صاحبه، كقطع يد السارق من المسلمين، وحد الزاني.

قال شيخنا ابن عثيمين: "وقوله تعالى: {عذاب} أي عقوبة؛ و {مهين}، أي ذو إهانة وإذلال؛ ولو لم يكن من إذلالهم، حين يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: ١٠٧]، إلا قول الله عزّ وجلّ لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: ١٠٨]، لكفى" (٨).

وقال ابن كثير: " لما كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: ٦٠]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين] " (٩).

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم، يقال له: بُولَس فيعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار" (١٠).

وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: ٩٠]، فهذا إظهار في موضع الإضمار فيما يظهر؛ لأن ظاهر السياق أن يكون بلفظ الضمير، أي ولهم عذاب مهين؛ والإظهار في موضع الإضمار له فوائد كثيرة، تظهر بحسب السياق منها (١١):

أولا: الحكم على مرجعه بما يقتضيه الاسم الظاهر.

ثانيا: بيان علة الحكم.

ثالثا: عموم الحكم لكل متصف بما يقتضيه الاسم الظاهر (١٢).


(١) التدمرية: ٧٩ - ٨١.
(٢) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٣) تفسير البيضاوي: ١/ ٩٤.
(٤) تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٥.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١٨): ص ١/ ١٧٤.
(٦) تفسير السعدي: ١/ ٥٨.
(٧) انظر: النكت والعيون: ١/ ١٥٩، والمحرر الوجيز: ١/ ١٧٩.
(٨) انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٥٥.
(٩) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٨.
(١٠) مسند الإمام أحمد (٦٦٣٩): ص ٢/ ١٧٩.
(١١) انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٢٨.
(١٢) وهذا الأسلوب-أعني الإظهار في موضع الإضمار- كثير في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: ٩٨]، ولم يقل فإن الله عدو له، فأفاد هذا الإظهارُ:
أولا: الحكم بالكفر على من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال.
ثانيا: أن الله عدو لهم لكفرهم.
ثالثا: أن كل كافر فالله عدو له.
ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: ١٧٠]، ولم يقل إنا لا نضيع أجرهم؛ فأفاد ثلاثة أمور:
أولا: الحكم بالإِصلاح للذين يمسكون الكتاب، ويقيمون الصلاة.
ثانيا: أن الله آجرهم لإصلاحهم.
ثالثا: أن كل مصلح فله أجر غير مضاع عند الله تعالى. [انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٦٧].

<<  <  ج: ص:  >  >>