للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

به أنها تخلصهم من العقاب، وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها، فذمهم الله تعالى، وقال: بئسما اشتروا به أنفسهم" (١)، ذكره أبو حيان عن صاحب المنتخب (٢).

واختاره الفخر الرازي قائلا: وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول (٣).

قال أبو حيان: و"يرد عليه، {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، حيث فعلوا ذلك على سبيل البغي والحسد" (٤).

والراجح -والله أعلم- هو القول الأول، بأن (اشتروا) هنا، بمعنى (باعوا)، وذلك قول الأكثرين (٥).

قال الإمام الطبري: " فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: {بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله}؟ وهل يشتري بالكفر شيء؟ قيل: إن معنى: الشراء والبيع عند العرب، هو إزالة مالك ملكه إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا، فتقول: نعم ما باع به فلان نفسه وبئس ما باع به فلان نفسه، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: {بئس ما اشتروا به أنفسهم} - لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: {بئس ما اشتروا به أنفسهم}، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك" (٦).

قوله تعالى: {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: ٩٠]، " أي كفرهم بالقرآن الذي أنزله الله" (٧).

قال الثعلبي: أي" حين استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالأيمان" (٨).

قال أبو العالية: " اليهود، كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" (٩).

وقوله تعالى: {وبِما أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: ٩٠]، يحتمل ثلاثة أوجه (١٠):

الأول: القرآن. قاله أبو العالية (١١)، واختاره الثعلبي (١٢)، والواحدي (١٣)، والقرطبي (١٤)، وغيره.

والثاني: التوراة، "لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة" (١٥).

الثالث: ويحتمل أن يراد به: الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، "لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل" (١٦).

والوجه الأول أظهر مع سياق الآية. وبه قائل أكثر أهل التفسير، والله أعلم.

وأصل نعم وبئس: " نَعِمَ وبَئِسَ" (١٧)، يخبر بأحدهما عن الشيء المذموم، وبالثاني عن الممدوح.


(١) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠١.
(٢) انظر: البحر المحيط: ١/ ٣٠٥.
(٣) مفاتيح الغيب: ٣/ ٦٠١.
(٤) البحر المحيط: ١/ ٣٠٥. وقال الآلوسي: " واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأن لا يشترى به الأنفس؟ ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية". [روح المعاني: ١/ ٣٢١].
(٥) انظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٤٧ - ١٤٨، ومعاني القرآن للزجاج: ١/ ٥٨، والبحر المحيط: ١/ ٣٠٥.
(٦) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٤٣.
(٧) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٨) تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٥، ونقله القرطبي في تفسيره: ٢/ ٢٨.
(٩) أخرجه ابن أبي حاتم (٩١٠): ١/ ١٧٣.
(١٠) انظر: المحرر الوجيز: ١/ ١٧٨.
(١١) انظر: تفسير الطبري (١٥٣٨): ص ٢/ ٣٤٢.
(١٢) انظر: تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٥.
(١٣) انظر: التفسير البسيط: ٣/ ١٥٠.
(١٤) انظر: تفسير القرطبي: ٢/ ٢٩.
(١٥) المحرر الوجيز: ١/ ١٧٨.
(١٦) المحرر الوجيز: ١/ ١٧٨.
(١٧) انظر: المقتضب للمبرد: ٢/ ١٤٠ - ١٥٢، وتهذيب اللغة: ١/ ٤١٢، واللسان: ١/ ٢٠١ (بئس).

<<  <  ج: ص:  >  >>