للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: ٨٩]، " أي: ولما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن (١).

قال ابن عثيمين: " هو القرآن؛ ونكَّره هنا للتعظيم؛ وأكد تعظيمه بقوله تعالى: {من عند الله}، وأضافه الله تعالى إليه؛ لأنه كلامه" (٢).

قال قتادة: " وهو القرآن الذي أنزل على محمد، مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل" (٣). وروي عن الربيع مثل ذلك (٤).

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة {مصدقا}، بالنّصب على الحال (٥)، قيل: كيف جاز نصبها عن النكرة؟ قلنا: إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف {كتاب} بقوله: {من عند الله} (٦).

وقال الزجاج: " تقرأ {جاءَهم}، بفتح الجيم والتفخيم، وهي لغة أهل الحجاز، وهي اللغة العليا القُدمى، والإِمالةُ إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب" (٧).

و(الكتاب): "اشتقاقه من (الكَتْبِ)، وهي جمع (كَتْبة)، وهي الخرزة، وكل ما ضممت بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته، و (الكَتِيبَة): الفرقةُ التي تحارب من هذا اشتقاقها، لأن بعضَها منضم إلى بعض، وسمى كلام الله عزَّ وجلَّ الذي أنزل على نبيه: كِتَاباً، وقُرآنأ وفُرقاناً" (٨).

قوله تعالى: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: ٨٩]، أي: "المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة" (٩).

قال الثعلبي: "موافق لِما مَعَهُمْ" (١٠).

قال الزجاج: " أيْ يصدقُ بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا بوحي أو قراءَة كُتُبٍ، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب" (١١).

وقد ذكروا في قوله تعالى: {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: ٨٩]، معنيين: (١٢)

الأول: مصدق بأن التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل.

يعني: "أنه حكم بصدقها، كما قال في قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: ٢٨٥]؛ فهو يقول عن التوراة: إنه حق، وعن الإنجيل: إنه حق؛ وعن الزبور: إنه حق؛ فهو يصدقها، كما لو أخبرك إنسان بخبر، فقلت: "صدقت" تكون مصدقاً له" (١٣).

أحدهما: مصدق لما في التوراة والإنجيل من الأخبار التي فيهما.

يعني: أنه جاء مطابقاً لما أخبرت الكتب السابقة، التوراة، والإنجيل؛ فعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم بشرهم بمجيء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: ٦]؛ فجاء هذا الكتاب مصدقاً لهذه البشارة" (١٤).

وقد أختلف أهل اللغة في جواب (لما)، على ثلاثة أوجه (١٥):

أحدها: أنه محذوف، قال الإمام الطبري: "هو مما ترك جوابه، استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه، وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن، وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبة، فتحذف أجوبتها، لاستغناء سامعيها - بمعرفتهم بمعناها - عن ذكر الأجوبة، كما قال جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [سورة الرعد: ٣١]، فترك جوابه والمعنى: " ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن سيرت به الجبال لسيرت بهذا القرآن - استغناء بعلم السامعين بمعناه، قالوا: فكذلك قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) " وهذا قول الأخفش والزجاج (١٦).

والثاني: "أن تكون الفاء جوابا للما الأولى {كفروا به} جوابا ل (لما) الثانية وهو كقوله: {فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم} [البقرة: ٣٨] [طه: ١٣٣] الآية" (١٧)، أي: فإن الجواب قوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) في " الفاء " التي في قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، وجواب الجزاءين في " كفروا به كقولك: " لما قمت، فلما جئتنا أحسنت بمعنى: لما جئتنا إذْ قمت أحسنت، حكي ذلك عن الفراء (١٨).

والثالث: وقيل: أنه على التكرير لطول الكلام والجواب: كفروا به كقوله تعالى: {أيعدكم أنكم} إلى قوله تعالى: {أنكم مخرجون} [المؤمنون: ٣٥]، حكي ذلك عن المبرد (١٩).

قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: ٨٩]، أي وقد كانوا قبل مجيئه" (٢٠).

قال ابن كثير: " أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب" (٢١).

قال الزجاج: " وكانوا من قبل هذا" (٢٢).

قوله تعالى: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: ٨٩]، أي: " يستنصرون به على أعدائهم" (٢٣).

قال ابن كثير: أي"يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم" (٢٤).

قال الطبري: أي " يستنصرون الله بمحمد-صلى الله عليه وسلم- على مشركي العرب من قبل مبعثه" (٢٥).

قال أبو حيان: " أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم" (٢٦).

قال الصابوني: أي"يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة" (٢٧).

قال ابن عثيمين: " أي يستنصرون، ويقولون سيكون لنا الفتح، والنصر، من المشركين الذين هم الأوس، والخزرج، لأنهم كانوا على الكفر، ولم يكونوا من أهل الكتاب" (٢٨).

قال السعدي: " وقد علموا به، وتيقنوه حتى إنهم كانوا إذا وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب، استنصروا بهذا النبي، وتوعدوهم بخروجه، وأنهم يقاتلون المشركين معه" (٢٩).


(١) انظر: تفسير السعدي: ٥٨، وتفسير ابن عثيمين: ١/ ٢٨٩.
(٢) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٢٨٩.
(٣) أخرجه الطبري (١٥١٨): ص ٢/ ٣٣٢.
(٤) انظر: تفسير الطبري (١٥١٩): ص ٢/ ٣٣٢.
(٥) انظر: تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٤.
(٦) انظر: مفاتيح الغيب: ٣/ ٥٩٨.
(٧) معاني القرآن: ١/ ١٧٠.
(٨) معاني القرآن للزجاج: ١/ ١٧٠.
(٩) تفسير السعدي: ٥٨.
(١٠) تفسير الثعلبي: ١/ ٢٣٤.
(١١) معاني القرآن: ١/ ١٧١.
(١٢) انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٥٣.
(١٣) انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٥٣.
(١٤) انظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٥٣.
(١٥) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٣٦ - ٣٣٧. ومفاتيح الغيب: ٣/ ٥٩٨.
(١٦) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٣٦.
(١٧) انظر: تفسير الرازي: ٢/ ١٦٥.
(١٨) انظر: معاني القرآن للفراء ١: ٥٩.
(١٩) انظر: تفسير الرازي: ٢/ ١٦٥.
(٢٠) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٢١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥.
(٢٢) معاني القرآن: ١/ ١٧١.
(٢٣) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٢٤) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٥.
(٢٥) انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣٣٢. (بتصرف بسيط).
(٢٦) البحر المحيط: ١/ ٢٦٠.
(٢٧) صفوة التفاسير: ١/ ٦٨.
(٢٨) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٢٩٠.
(٢٩) تفسير السعدي: ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>