للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما في الاصطلاح الشرعي، فإن الفداء لا يخرج عن معناه اللغوي، وعليه فيمكن القول: إن الفداء اصطلاحاً هو: " بذل المال ونحوه من سلاح وغيره مقابل افتكاك الأسير من قبضة عدوه" (١).

وأنشد الأصمعي للنابغة (٢):

مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمر من مال ومن ولد

وقد اتفق الفقهاء على مشروعية مفاداة أسرى المسلمين بالمال؛ بل تجب المفاداة إذا تعينت وسيلة لذلك؛ لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن لم يفد الإمام والمسلمون أثموا جميعا، لأنها من فروض الكفاية التي تسقط بقيام البعض بها (٣).

وقوله تعالى {تُفَادُوهُم} قرئ بوجهين (٤):

الأول: قرأ المدنيان نافع وأبو جعفر، وعاصم والكسائي ويعقوب (تفادوهم) بضم التاء وألف بعد الفاء.

والثاني: قرأ الباقون {تَفْدُوهم}، بفتح التاء وسكون الفاء من غير ألف.

قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: ٨٥]، "أي فكيف تستبيحون القتل والإِخراج من الديار، ولا تستبيحون ترك الأسرى في أيدي عدوهم؟ " (٥).

أخرج ابن أبي حاتم: " عن ابن عباس: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم}، في كتابكم: إخراجهم" (٦).

قال ابن عثيمين: أي: " "تفدون المأسورين وهو محرم عليكم إخراجهم من ديارهم" (٧).

وقال قتادة: " والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر" (٨).

وقوله تعالى {هُوَ}، يحتمل وجهين من الإعراب (٩):

الأول: مبتدأ وهو كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره، كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر (الإخراج) الذي بعد {وهو محرم عليكم}، تكريرا على {هو}، لما حال بين (الإخراج) و (هو) كلام، ويقرأ {وهو} بسكون الهاء لثقل الضمة، كما قال الشاعر (١٠):

فهْو لا تنمي رميته ... ماله لا عد من نفره (١١)

الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت (الواو) التي مع {هو} تقتضي اسما يليها دون الفعل، فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه (الواو) أن يليها - أُولِيَتْ (هو)، لأنه اسم، كما تقول: أتيتك وهو قائم أبوك، بمعنى: وأبوك قائم، إذ كانت (الواو) تقتضي اسما، فعمدت بـ (هو)، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام، كما قال الشاعر (١٢):


(١) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (ج ٣٢، ص ٥٩).
(٢) هذه البيت من البسيط قاله النابغة الذبياني من قصيدة مدح بها النعمان وتبرأ مما رماه به الوشاة عنده ومطلعها:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
«مهلا»: بمعنى أمهل وتأنّ والفداء: ما يفتدى به الشيء و «أثمر» أي: أجمع وأصلح، يقال: ثمّر فلان ماله إذا جمعه وأصلحه. والمعنى: لا تعجل عليّ بالانتقام فداك الأقوام وما أجمع من مال وولد.
والشاهد فيه: أن «فداء» مما التزم فيه التنكير من أسماء الأفعال. انظر البيت في المفصل (ص ١٦٤) وابن يعيش (٤/ ٧٠)، والتذييل (٦/ ٢١٣) والخزانة (٣/ ٧)، واللسان (فدى). وديوان النابغة (ص ٢٦).
(٣) انظر: تفسير القرطبي (ج ٥، ص ٢٧٩)، الموسوعة الفقهية الكويتية (ج ٣٢، ص ٦٠).
(٤) انظر: السبعة: ص ١٦٢ - ١٦٣، والتيسير للداني ص ٦٤، والنشر: ٢/ ٢١٨.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ٦٦.
(٦) تفسير ابن أبي حاتم (٨٦٧): ص ١/ ١٦٥.
(٧) تفسير ابن عثيمين: ١/ ١٤٧.
(٨) تفسير ابن أبي حاتم (٨٦٨): ص ١/ ١٦٦.
(٩) تفسير الطبري: ٢: ٣١٢ - ٣١٣، وتفسير القرطبي: ٢/ ٢٢.
(١٠) البيت لامرئ القيس في ديوانه ١٥٣، واللسان (نمى)، والرواية فيهما: "فهو لا تنمى".
(١١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢.
(١٢) لم أتعرف على قائل الأبيات، وهي وردت في معاني القرآن للفراء ١: ٥٢. . والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة.
السلامي: يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على الزكاة، وأميرا على حمى ضرية، ولست أعرف نسبته، أهي قبيلة أم إلى بلد. وحمى ضرية: في نجد، على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم. وفي البيت إقواء، " بثوب "، متعلق بقوله آنفًا " باع ". يقول: أخذ هذه الرشى التي عددها من بني عبس، فأسلم إليهم حقي. وقوله: " فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس " يقوله لأبي يحيى الذي ذكره، ويقول: فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ لناحقنا، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم. وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك. قال الراعي (طبقات فحول الشعراء: ٤٤٢):
فإن رفعت بهم رأسا نَعَشْتُهم ... وإن لَقُوا مثلها في قابل فسدوا
وقال أعرابي:
فتى مثل ضوء الشمس، ليس بباخل ... بخير، ولا مهد ملاما لباخل
ولا ناطق عوراء تؤذى جليسه ... ولا رافع رأسا بعوراء قائل
وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري ١: ٢٣): " فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". (انظر: تفسير الطبري: ٢/ ٣١٢ - ٣١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>