للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والاستعانة تجمع بين أصلين (١):

أحدهما: الثقة بالله.

والثاني: الإعتماد عليه.

والتوكل أيضا يلتئم من هذين الأصلين، لذلك قد سوى ابن القيم بين التوكل والاستعانة وقال في تعريفهما: " التوكل والاستعانة، حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق، والتدبير والضرر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه (واستعانة به) وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكتابته لما توكل عليه فيه واستعان به عليه، وأنه ملي به، ولا يكون إلا بمشيئته شاء الناس ذلك أم أبوه" (٢).

وبعض أهل العلم مثل ابن القيم -رحمه الله- يذكر أكثر من عشرة أوجه في وجه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ويمكن أن تراجع في كتابه مدارج السالكين.

كما وأن "تحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى" (٣)، وهذا التفات، والالتفات لا شك أنه تفننٌ في الخطاب، وله من الدلالات البلاغية في كل مقامٍ ما يناسبه، وهو في الجملة لا شك أنه أدعى إلى تنشيط السامع، وهو أدلُّ على الفصاحة والبلاغة والقدرة على التفنن بالكلام، فهذا الالتفات تارةً يكون من الغائب إلى المخاطب مثل هنا، فهو يتحدث عن الله -عز وجل- على سبيل الغيبة، الحمد لله هو رب العالمين، هو الرحمن الرحيم، ثم قال: إياك، فتوجه إلى المخاطب، وعلل ذلك هنا فقال: كأنه لما أثنى عليه اقترب منه فناسب أن يوجه الخطاب إليه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(٥) الفاتحة]، وهذا مثل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} [(٢٢) يونس]، فالكلام للمخاطب، ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [(٢٢) يونس] حيث تحول عكس ما عليه الحال هنا، أي تحول الكلام من الخطاب إلى الغيبة، وعلى كل حال فالالتفات أنواع، والكلام عن هذا الموضوع يوجد في كتب البلاغة مفصلاً، ولهذا قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] "وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجمال صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك، ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه، كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (٤) (٥).


(١) مدارج السالكين: ١/ ٧٥.
(٢) مدارج السالكين: ١/ ٨٢.
(٣) تفسير ابن كثير: ١/ ٢١٥
(٤) أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (٧٢٣) (ج ١ / ص ٢٦٣) ومسلم في كتاب الصلاة - باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (٣٩٤) (ج ١ / ص ٢٩٥).
(٥) تفسير ابن كثير: ١/ ٢١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>