للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثالث: أن (الفيء): المراجعة باللسان بكلّ حال. قاله إبراهيم (١)، والحسن (٢)، وأبي قلابة (٣)، ومن قال إن المُولي هو الحالف على مساءة زوجته.

ومذهب الجمهور: أن (الفيء) هو الجماع، "لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا، لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي هو جماعٌ - بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة، لأن المرء إنما يكون تاركًا ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ، وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إلي" (٤).

قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦]، أي: " فإِن الله يغفر ما صدر منهم من إِساءة ويرحمهم" (٥).

قال القاسمي: أي: "لا يؤاخذهم بتلك اليمين، بل يغفر لهم ويرحمهم" (٦).

قال الزمخشري: " يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة" (٧).

قال ابن عثيمين: "أي يغفر لهم ما تجرؤوا عليه من الحلف على حرمان الزوجات من حقوقهن؛ لأن حلفهم على ألا يطؤوا لمدة أربعة أشهر اعتداء على حق المرأة؛ إذ إن الرجل يجب عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف؛ وليس من العشرة بالمعروف أن يحلف الإنسان ألا يطأ زوجته مدة أربعة أشهر؛ فإن فعل فقد عرض نفسه للعقوبة؛ لكنه إذا رجع غفر الله له؛ و {غفور} أي ذو مغفرة، كما قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} [الرعد: ٦]؛ والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه مأخوذة من «المغفر»؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب لاتقاء السهام؛ وفي المغفر تغطية، ووقاية؛ و {رحيم} أي ذو رحمة، كما قال تعالى: {وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام: ١٣٣]؛ فهو مشتق من الرحمة المستلزمة للعطف، والحنوّ، والإحسان، ودفع النقم" (٨).

قال القرطبي: " ولم يذكر كفارة، وأيضا فإن هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية، وترك وطء الزوجة معصية" (٩).

وقد اختلف في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦]، على ثلاثة أقوال (١٠):

أحدها: أنه أراد غفران الإثم وعليه الكفارة، والتفسير: " {فإن الله غفور} للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة، {رحيم} بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة" (١١). وهذا قول ابن عباس (١٢)، وسعيد بن جبير (١٣)، وإبراهيم (١٤)، وقتادة (١٥)، والربيع (١٦)، وعكرمة (١٧).

والثاني: أنه تعالى غفور بتخفيف الكفارة وإسقاطها، والتفسير: " {فإن الله غفورٌ} لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ {رحيم} بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه" (١٨). وهذا قول الحسن (١٩)، وإبراهيم (٢٠).

وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث براً.

والثالث: أن المعنى: فإنه تعالى غفور لمأثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير، قاله ابن زيد (٢١).

والراجح -والله أعلم - هو القول الأول، وذلك لأن " الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة" (٢٢).

الفوائد

١ - من فوائد الآيتين: ثبوت حكم الإيلاء؛ لأن الله تعالى وقَّت له أربعة أشهر.

٢ - ومنها: أن الإيلاء لا يصح من غير زوجة؛ لقوله تعالى: [من نسائهم}؛ فلو حلف أن لا يطأ أمته لم يثبت له حكم الإيلاء؛ ولو حلف أن لا يطأ امرأة، ثم تزوجها، لم يكن له حكم الإيلاء - لكن لو جامع وجبت عليه كفارة يمين -.


(١) انظر: تفسير الطبري (٤٥٤١): ص ٤/ ٤٧٢.
(٢) انظر: تفسير الطبري (٤٥٤٢): ص ٤/ ٤٧٢.
(٣) انظر: تفسير الطبري (٤٥٤٤): ص ٤/ ٤٧٢.
(٤) تفسير الطبري: ٤/ ٤٧٣.
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ١٣٠.
(٦) محاسن التأويل: ٢/ ١١١.
(٧) الكشاف: ١/ ٢٦٩.
(٨) تفسير ابن عثيمين: ٣/ ٩٥ - ٩٦.
(٩) تفسير القرطبي: ٣/ ١١٠.
(١٠) النكت والعيون: ١/ ٢٨٩، وتفسير الطبري: ٤/ ٤٧٤ وما بعدها.
(١١) تفسير الطبري: ٤/ ٤٧٥.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (٤٥٥٠): ص ٤/ ٤٧٥.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (٤٥٥١): ص ٤/ ٤٧٦.
(١٤) انظر: تفسير الطبري (٤٥٥٢): ص ٤/ ٤٧٦.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (٤٥٥٤): ص ٤/ ٤٧٦.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (٤٥٥٥): ص ٤/ ٤٧٦.
(١٧) انظر: تفسير الطبري (٤٥٤٩): ص ٤/ ٤٧٥.
(١٨) تفسير الطبري: ٤/ ٤٧٤.
(١٩) تفسير الطبري (٤٥٤٦): ص ٤/ ٤٧٤.
(٢٠) انظر: تفسير الطبري (٤٥٤٨): ص ٤/ ٤٧٤ - ٤٧٥.
(٢١) انظر: تفسير الطبري (٤٦٥٦): ص ٤/ ٤٦، والنكت والعيون: ١/ ٢٨٩.
(٢٢) تفسير الطبري: ٤/ ٤٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>