للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة.

والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه" (١).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: ٢٢٥]، أي: والله " غفور لعباده، حليم عليهم" (٢).

قال الصابوني: "أي واسع المغفرة لا يعاجل عبادة بالعقوبة" (٣).

قال القرطبي: " صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة" (٤).

قال الشوكاني: " أي حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد وقصد وآخذكم بما تعمدته قلوبكم وتكلمت به ألسنتكم وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة" (٥).

قال الطبري: " {والله غفورٌ} لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم، {حليمٌ} في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم" (٦).

قال ابن عثيمين: " (الحليم): هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها" (٧).

قال الواحدي: " معنى الحلم في كلام العرب: الأناة والسكون، والعرب تقول: ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدها تؤدة في السير. ومنه الحلم؛ لأنه يرى في حال السكون، وحلمة الثدي لأنها تحلم المرتضع، أي: تسكنه، والحلمة: القراد، مشبهة بحلمة الثدي، ومعنى الحليم في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكافرين والعصاة" (٨).

قال الراغب: " (الحلم): ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام، قال الله تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم} [الطور: ٣٢] قيل معناه: عقولهم، وليس الحلم في الحقيقة هو العقل، لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل" (٩).

قال السمين الحلبي: " (الحلم): أصله ضبط عن هيجان الغضب، وإذا ورد في صفات الله فمعناه: الذي لا يستفزه عصيان العصاة، ولا يستخفه الغضب عليهم" (١٠).

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده في لفظه؛ وهذه الفائدة قاعدة عظيمة يترتب عليها مسائل كثيرة؛ منها لو جرى لفظ الطلاق على لسانه بغير قصد لم تطلق امرأته؛ ولو طلق في حال غضب شديد لم


(١) تفسير الطبري: ٤/ ٤٥٤ - ٤٥٥.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٦٠٤.
(٣) صفوة التفاسير: ١/ ١٢٨.
(٤) تفسير القرطبي: ٣/ ١٠٢.
(٥) فتح القدير: ١/ ٢٣١.
(٦) تفسير الطبري: ٤/ ٤٥٥.
(٧) تفسير ابن عثيمين: ٣/ ٩٣.
(٨) التفسير البسيط: ٤/ ٢٠٠، وانظر: هذيب اللغة: ١/ ٩٠٨، وعمدة الحفاظ: ١/ ٥١٦ - ٥١٨، "اللسان" ٢/ ٩٧٩ - ٩٨٢.
(٩) المفردات: ١٣٦.
(١٠) عمدة الحفاظ: ١/ ٥١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>