للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الحافظ ابن حجر: أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان -بالفتح - فالاستدلال بها في الإِيمان - بالكسر - واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب (١) (٢).

قال الشنقيطي: " لم يصرح هنا بالمراد بما كسبته قلوبهم ولم يذكر هنا ما يترتب على ذلك إذا حنث ولكنه بين في سورة المائدة أن المراد بما كسبت القلوب هو عقد اليمين بالنية والقصد وبين أن اللازم في ذلك إذا حنث كفارة هي: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ومن عجز عن واحد من الثلاثة فصوم ثلاثة أيام وذلك في قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: ٨٩] " (٣).

وقد اختلف أهل التفسير في المعنى الذي أوعد الله تعالى بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥]، عبادَه أنه مؤاخذهم به، وفي ذلك أقوال (٤):

أحدها: أن المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل. قاله ابن عباس (٥)، وإبراهيم (٦)، ومجاهد (٧)، وعطاء (٨).


(١) الفتح: ١/ ٨٩. ومراد الحافظ هنا بيان أن التصديق اللساني ليس بكاف ليوجد الإيمان في الاصطلاح الشرعي، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك عمل القلب وهو: خوفه ومحبته ورجاؤه وتوكله ... ونحو ذلك، هذا بالإضافة إلى قول القلب وهو التصديق، وعمل الجوارح، انظر: الهامش السابق.
(٢) وقال قبل ذلك: " الإِيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه، والاعتقاد فعل القلب". وقد جعلت الكرامية: الإيمان قول اللسان وإن خالفه اعتقاد القلب، والجهمية: جعلت الإيمان اعتقاد القلب فقط وإن خالفه اللسان، والمرجئة قالوا: هو اعتقاد القلب وقول اللسان، والمعتزلة والخوارج قالت: هو حقيقة واحدة من الاعتقاد والنطق والعمل إذا ذهب بعضه ذهب كله، وأهل السنة وسلف الأمة؛ يجعلونه حقيقة مركبة من القول والعمل فالقول عندهم: قول القلب وهو التصديق، وقول اللسان وهو النطق. والعمل عندهم: عمل القلب كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والتوبة ... الخ وعمل الجوارح، وهذا لا يعني عندهم أن الإيمان لا يحصل إلا بفعل العمل كله، بل قد يكون العبد مؤمناً مع تخلف بعض العمل، لكنه ينقص من إيمانه بمقدار ما نقص من عمله. ومن الأدلة الدالة لأهل السنة على أن الإيمان تصديق بالقلب قوله-عز وجل-: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: ٤١]، ومن الأدلة الدالة لهم على أن الإيمان عمل بالقلب قوله-عز وجل-: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٧٥]، وقوله-سبحانه-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: ٢٣] ومن الأدلة الدالة لهم على أن الإيمان قول باللسان قوله-عز وجل-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: ١٣٦] وقوله سبحانه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: ٤٦]. ومن الأدلة الدالة لهم على أن الإيمان عمل بالجوارح قوله صلى الله عليه وسلم: عند البخاري-فتح-: ١/ ٦٧ رقم: ٩، ومسلم: ١/ ٦٣ رقم: ٣٥ واللفظ له: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس عند البخاري-فتح-: ١/ ١٥٧ رقم: ٥٣، ومسلم: ١/ ٤٦ رقم: ١٧ (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس). وقوله صلى الله عليه وسلم عند مسلم: ١/ ٦٩ رقم: ٤٧ (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). وانظر: الإيمان لابن تيمية: ١٦٢ - ١٦٣ و: ٢٩٢ - ٢٩٣، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: ١/ ١٧٢، التمهيد لابن عبد البر: ٩/ ٢٣٨ و: ٢٤٣، شرح السنة لعبد الله بن الإمام أحمد: ١/ ٣٠٧، شرح الطحاوية لابن أبي العز: ٢/ ٤٧٤، شرح السنة للبغوي: ١/ ٣٨ - ٤٠، نواقض الإيمان القولية والعملية د. العبد اللطيف: ١٥ - ١٦، منهج الحافظ ابن حجر في العقيدة من خلال الفتح لمحمد كندو: ٩٣٣ - ٩٣٤. ولا يفهم من كلام الحافظ ابن حجر-رحمه الله-هنا أنه يقول بخروج العمل من مسمى الإيمان إذ قال في الفتح: ١/ ٦٦ (والجامع بين الآية والحديث أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر كما هي داخلة في مسمى الإيمان)، وانظر الفتح: ١/ ٩٨.
(٣) أضواء البيان: ١/ ٩٦.
(٤) انظر: تفسير الطبري: ٤/ ٤٤٩ وما بعدها.
(٥) تفسير الطبري (٤٤٦٩): ص ٤/ ٤٥٠.
(٦) تفسير الطبري (٤٤٦٦): ص ٤/ ٤٤٩.
(٧) تفسير الطبري (٤٤٧٠): ص ٤/ ٤٥٠.
(٨) انظر: تفسير الطبري (٤٤٧٢): ص ٤/ ٤٥٠ - ٤٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>