المعاني. وبقي بعد المعنى الكنين في صدر أبي تمام. فعبر عنه بتأليف هذه المادة صورًا بارعة آخاذة بالقلوب. تأمل قول أبي تمام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
هذا المعنى نابعُ من قلب أبي تمام. جمع فيه جمعًا فنيًّا نادرًا رائعًا بين قولي الجاحظ في البيان والحيوان أن المعاني أسرار في الصدور وأنها معرضة مطروحة في الطريق، ويجوز أنه قد قال هذين البيتين قبل أن يقول الجاحظ، على أنه أسن منه، كلاميه.
وتأمل قوله في فتح عمورية:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدودًا عن أبي كرب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت النواصي الليالي وهي لم تشب
بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
فههنا علم وفكر زوجهما الشاعر إلى فسيفساء من النظم فيه الاستعارة الغريبة المدى والتشبيه المذهل والتناسب بين ضروب الألفاظ والصور: تأمل تعبير بأعيت رياضتها كسرى عما كان من محاولات الفرس قهر الروم وبصدت صدودًا عن أبي كرب أنها كانت أبعد من متناول ملوك اليمن التبابعة وأقرب ما دنوا منها كان ملك جلق والحيرة على تقدير أن ملوك لخم وغسان أصولهم يمنية. وتأمل تناسب قوله أعيت رياضتها وصدت صدودًا مع قوله برزة الوجه. ثم اتباعه ذلك بأنها لم تشب وقد شابت نواصي الليالي وشعرها لم يزل لونه لون سواد الليالي. ثم لما جعلها بكرًا قال إن الحوادث لم تفترعها والافتراع يناسب معنى العذراء وكف الحوادث تناسب