للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

مشترك يوحدها، بل كان ما يربط فيما بينها شيء آخر، هو الغلبة، أو العقد، أو نوع من التجانس الطبيعي، كوحدة العرق أو الطبائع أو اللغة.

لم تعد النبوة، في نظر الفارابي، هبة مجانية من الله، بل حالة إنسانية طبيعية. وهي حالة من حالات المخيلة لا من حالات العقل، فلا توصلنا إلى إدراك معرفة عامة تعجز الفلسفة عن بلوغها. وهكذا فإن وظيفة النبي وظيفة عملية، لا بل سياسية، أكثر مما هي نظرية، تنحصر في تأسيس الدولة الفاضلة وحكمها. فحتى محمد نفسه لم ينفرد، في نظر الفارابي، بهذه الوظيفة. إذ لما كانت جميع الديانات الصحيحة تعبيرًا رمزيًا عن الحقيقة الواحدة، كان بالإمكان أن يكون هناك أمم ومدن فاضلة رغم اختلاف الأديان، لأن هذه الأديان إنما تبتغي جميعها السعادة الواحدة وتسعى نحو أغراض واحدة» (١٤). لقد عدل الفلاسفة فيما بعد بعض هذه الآراء. فابن سينا (٩٨٠ - ١٥٣٧) مثلًا، على ادعائه بأن الإشراق النبوي حالة طبيعية، لم يعتبر هذه الحالة خاصة بالمخيلة وحدها، بل نسبها إلى العقل أيضًا، لا بل رأى فيها بالحقيقة أعلى حالات العقل البشري، مهمتها الجوهرية سن الشرائع التي يجب على جميع البشر التقيد بها. أما محتوى الشريعة الإلهية، فقد اعتبره ابن سينا، مبدئيًا، في متناول العقل البشري بدون معونة إلهية، قائلًا إن لم يكن هناك من نبي، فمن الممكن أن ينشأ في المجتمع نظام شرائعي صالح بطرق أخرى. لكن هذه النظرة لم تلق قبولًا لدى المحافظين من السنة أكثر مما لقيت نظرة الفارابي. ذلك لأن الفيلسوفين حاولا عقلنة عملية الوحي، أي تحويل العلاقة البشرية بين المشيئة الإلهية والإرادة البشرية إلى مجرد علاقة بين عقول نظرية. ولما اشتدت المقاومة السنية لهذه الآراء، غدت دراسة أقوال الفلاسفة هامشية، إن لم نقل مشبوهة، مع أن نفرًا من العلماء استمروا عليها، كما بقيت تعاليم ابن سينا سائدة في المدارس الشيعية في الشرق. غير

<<  <   >  >>