وبَرْد شديد ما قام أَحَد، ثُم ذهَب عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُصلِّي حتَّى مضَى هَوِيٌّ من الليل، ثُم رَجَع وقال هذا الكلامَ مرَّةً أُخرى، فلم يَقُم أَحَد، ثُم رجَع يُصلِّى، ثُم رجَع فقال هذا الكلامَ، فلَمْ يَقُم أَحَد.
فنَصَّ على حُذَيْفةَ -رضي اللَّه عنه- قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ يَا حُذَيْفَةُ" يَقول: فلمَّا ذَكَرني لم يَكُن لي بُدٌّ من طاعة اللَّهِ ورَسولِه. قام -رضي اللَّه عنه-، وأَوْصاه الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أن يَذهَب إلى القوم ويَنظُر خبَرَهم، وألَّا يُحدِث شيئًا أبدًا يَقول: لمَّا انصَرَفْت من عند الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- صِرْت كأنما أنا في حَمَّام، لا أُحِسُّ بِرِيح ولا بِبَرد حتَّى وصَلْتُ إلى القَوْم، وجعَلْت أُشاهِد أبا سُفْيانَ؛ لأنه رئيس قُرَيْش أُشاهِده وهو يَصطَلي على النار من شِدَّة البَرْد، ويَأذَن بالرَّحيل، يَأمُرهم بأن يَرحَلوا: ليس لنا مُقام هنا. ووَضَع سهمًا في قَوْسه يُريد أن يَرمِيَه؛ لأنه قريب منه، لكنه -رضي اللَّه عنه- تَذكَّر قولَ النبيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:"لَا تُحْدِثْ شَيْئًا"، فامتَنَع، يَقول: فقال أَبو سُفْيانَ: يَنظُر كلُّ واحِد منكم جَليسَه؛ خاف من الجَواسيس والعُيون، فأَمسَكْت برَجُل من جانبي وقُلْتُ: مَن أنت؟ ابتَدَأ به قَبْل أن يَسأَل هُو قال: أنا فُلان بنُ فُلان.
فأَخَذ الخَبَر ثُم رجَع إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كأنما هو في حَمَّام لا هواءَ ولا بَرْدَ، لكن لمَّا وصَل للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ واستَقَرَّ أَحَسَّ بالبَرْد، فلمَّا أَحَسَّ بالبَرْد وضَع النَّبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عليه لِباسًا كان معه؛ ليَدفَأ به، ونامَ، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلِّي ويَتهَجَّد، يَقول: فلمَّا أَصبَح الصُّبْح أَيْقَظني وقال: "يَا نَوْمَانُ قُمْ قُمْ يَا نَوْمَانُ"(١).
فالحاصِلُ: أن هذه الرِّيحَ كانت شديدةً جِدًّا أزَقتهم حتَّى انصَرَفوا مع ما أَلقَت
(١) أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، رقم (١٧٨٨)، من حديث حذيفة -رضي اللَّه عنه-.