وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَوْ حِمَارَ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَيْنٌ عِنْدَهُ وَبَيْعُ الْعَيْنِ شَائِعًا جَائِزٌ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ عَبْدًا مُشْتَرَكًا لِيَخِيطَ لَهُ الثِّيَابَ
الزَّيْلَعِيَّ اسْتَشْكَلَ أَصْلَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَهَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنَافِعِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْقَاعِدَةِ، فَقَبْلَ وُجُودِهَا لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَإِذَا وُجِدَتْ فَقَدْ اُسْتُوْفِيَتْ فَلَمْ يَبْقَ دَيْنًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ غَيْرُ مُخَلِّصٍ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ اسْتِشْكَالِهِ سَاقِطٌ. أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ أَيْضًا قَوْلُهُ: إنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي مُبَادَلَةِ الْمَنَافِعِ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ، إذْ الدَّيْنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ بَلْ عَامَّةِ الشُّرُوحِ. وَأَمَّا وَجْهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِنْ حَصَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ إلَّا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ ارْتِبَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ عِلَّةٌ مَعْلُولُهَا الِانْعِقَادُ، وَتَأَخُّرُ الْمَعْلُومِ عَنْ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ عَلَى مَا عُرِفَ، فَمَعْنَى انْعِقَادُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ سَاعَةً فَسَاعَةً أَنَّ عَمَلَ الْعِلَّةِ وَنَفَاذَهَا فِي الْمَحَلِّ يَحْصُلُ سَاعَةً فَسَاعَةً، لَا أَنَّ نَفْسَ الْعَقْدِ يَكُونُ سَاعَةً فَسَاعَةً، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَا يَصْدُرَانِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ، فَقَبْلَ وُجُودِ الْمَنَافِعِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الِانْعِقَادُ إلَّا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ نَفْسُ الْعَقْدِ، فَحِينَ أَنْ يَتَحَقَّقَ نَفْسُ الْعَقْدِ، وَهُوَ أَنَّ صُدُورِهِ عَنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَتَحَقَّقُ النَّسِيئَةُ فِي الْمَنَافِعِ قَطْعًا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلَانِ مَنْفَعَةً، وَاتَّحَدَ جِنْسُهُمَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَيَبْطُلُ قَوْلُهُ: فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا النَّسِيئَةُ تَبَصَّرْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ جُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ انْتَهَى. أَقُولُ: لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْحَاجَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَا حُصُولَ مَقْصُودِهِ بِمَا هُوَ لَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَادَلَةٍ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى سُكْنَى بَعْضِ الدُّورِ دُونَ بَعْضِهَا، وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِسُكْنَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْبِلَادِ بَلْ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الْمَحَالِّ مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ فَكَمْ مِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْهُ لِحُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَمُهِمَّاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى السُّكْنَى فِي بَلَدٍ آخَرَ أَوْ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى مِنْ الْبَلَدِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ حُصُولِ تِلْكَ الْحَوَائِجِ وَالْمُهِمَّاتِ هُنَاكَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَاجَةِ لَا يَكْفِي فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ، وَكَأَنَّهُ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بِأَنْ يُقَالَ: وَالْحَاجَةُ لَا تَمُسُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا تَمُسُّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَالْكَمَالُ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ، وَالْإِجَارَةُ مَا شُرِعَتْ لِابْتِغَاءِ الْفُضُولِ. انْتَهَى تَأَمَّلْ تَقِفْ.
(قَوْلُهُ: وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِيَضَعَ فِيهَا الطَّعَامَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَعِنْدِي لَا حَاجَةَ فِي إتْمَامِ الْكَلَامِ إلَى جَعْلِ الطَّعَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute