(وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى)؛ لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يُقْبَلُ بِالْوَلَدِ)؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ
عَلَى صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ كَصِحَّتِهِ بِالْأَبِ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ صِحَّتَهُ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، انْتَهَى. يَعْنِي: أَنَّ صِحَّتَهُ مُقَرَّرَةٌ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا، فَلَا وَجْهَ لِتَرَدُّدِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِيهَا، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ: أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ مَمْنُوعَةٌ؛ فَإِنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ تَصْدِيقَ الْأُمِّ إِيَّاهُ، وَفِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأُمِّ بِالْوَلَدِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَصْدِيقُهَا إِيَّاهُ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ بِهَا لِاسْتِلْزَامِ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ، وَأَمَّا ثَانِيًا؛ فَلِأَنَّ تَرَدُّدَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي صِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِالْأُمِّ إِنَّمَا نَشَأَ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ إِقْرَارَ الرَّجُلِ يَصِحُّ بِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْمَرْأَةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَذِكْرُ الْعَدَدِ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ بِالْأُمِّ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَاتِ جَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنَ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِلْجَوَازِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ عَدَمِ الْجَوَازِ هُوَ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ أَوِ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَعَدَمُ اطِّلَاعِنَا عَلَى دَلِيلِ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالْمَدَارُ فِي صِحَّةِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ صِحَّةُ النَّقْلِ عَنْهُمْ لَا غَيْرُ، فَتَأَمَّلْ. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْمَرْأَةِ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ.
فَإِنْ قُيِّدَ بِعَدَمِ الزَّوْجِ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقْرَارِهَا بِالْوَلَدِ؛ فَإِنَّ إِقْرَارَهَا بِالْوَلَدِ يَصِحُّ أَيْضًا إِذَا أُخِذَ بِهَذَا الْقَيْدِ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِإِثْبَاتِ هَذَا وَنَفْيِ ذَلِكَ، انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأُمُومِيَّةِ الْمَرْأَةِ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، بَلْ فِيهِ تَحْمِيلُ أُبُوَّةِ الزَّوْجِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ الْأَصْلَ فِي النَّسَبِ، فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا قَالُوا فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَبِ صَرَاحَةً: إِنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَبِ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ نَسَبِ نَفْسِهِ عَلَى الْغَيْرِ، بِخِلَافِ إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْإِقْرَارُ الَّذِي فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ إِقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ دَعْوَى أَوْ شَهَادَةٌ، وَالدَّعْوَى الْمُفْرَدَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، وَشَهَادَةُ الْمُفْرَدِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، كَذَا فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِ.
(وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ وَالْمَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَحْمِيلُ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ إِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَيَسْتَوِي فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ حَالَةَ الصِّحَّةِ، وَحَالَةَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمَرَضِ إِنَّمَا تُخَالِفُ حَالَةَ الصِّحَّةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ، فَمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءٌ، وَالنَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْوَلَاءُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، (وَلَا يُقْبَلُ)، أَيْ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ (بِالْوَلَدِ) وَإِنْ صَدَّقَهَا؛ (لِأَنَّ فِيهِ)، أَيْ: فِي إِقْرَارِهَا بِالْوَلَدِ (تَحْمِيلَ النَّسَبِ)، أَيْ: تَحْمِيلَ نَسَبِ الْوَلَدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute