صديق البطريرك الأنطاكي وهو «سيفيروس» يعترف دون خجل كيف أنه وصديقه كثيرًا ما اقترفا، أيام شبابهما في القرن الخامس الميلادي وفي الإسكندرية حيث كانا منضمين إلى هيئة مسيحية، كثيرًا من الآثام والجرائم الخلقية ضد العلماء الوثنيين وضد دور عبادتهم، فقد كسرا أنصاب آلهتهم وخربا معابدهم، وهكذا مجد مراكز الثقافة الهلّينية يختفي الواحد بعد الآخر. ففي عام ٥٢٩ م أقفلت آخر مدرسة للفلسفة في أثينا، وفي عام ٦٠٠ م احترقت في روما المكتبة التي أسسها «أغسطس»، كما حرم تدريس أدبيات الأقدمين وعلومهم وبخاصة الرياضيات، وهدمت حتى بقايا المباني القديمة. ولما تقدم العرب نحو الإسكندرية ودخلوها عام ٦٤٢ م لم تكن بها منذ زمن بعيد دور للكتب سواء كانت هذه الدور كبيرة أو صغيرة. والتهمة التي ألحقت بعد خمسة قرون بالقائد العربي عمرو بن العاص بأنه هو الذي أحرق مكتبة الإسكندرية الكبرى محض كذب وافتراء، وقد اخترعت هذه الفرية لتساق كمثل من أمثلة الأعمال البربرية والوحشية العربية، وقد ثبت اليوم بالأدلة التي لا تقبل شكًا أنها أكذوبة الأكاذيب.
فهذا الفاتح العربي، الذي فتحت له الإسكندرية أبوابها، قد جاء في طريقه بكثير من الأعمال التي تدل على التسامح العربي الأصيل، فقد منع تخريب البلاد وتدميرها، كما سلك مسلكًا غريبًا حثًا على الشرقيين الأقدمين والمسيحيين. «لقد منح سكان البلاد الحرية الدينية في هذا العهد الذي هو مثال عربي حي للعهود والمواثيق العربية التي تعني بالسلام، فقد شملت تلك العهود جميع الرعايا المسيحيين والقسيسين والرهبان والراهبات. لقد منح الإسلام الشعوب المغلوبة الأمان والحماية حيثما دعت الحالة إلى ذلك، كما انصرف عهد الأمان هذا إلى كنائسهم ومساكنهم ومزاراتهم والذين يقصدونها مثل: الجيورجيين والأحباش واليعقوبيين والنساطرة وجميع الذين يؤمنون بالنبي عيسى فجميع هؤلاء يستحقون العناية، وذلك لأنه سبق للنبي محمد أن آمنهم بعهد عليه خاتمه، كما حذرنا من ألا نكون رحماء معهم ونؤمنهم على حياتهم وممتلكاتهم. إن هذه ليست وعودًا جوفاء».