ولن نجد هذه الظاهرة أكثر وضوحًا وجلاء من أعمدة الدخان ولهب النيران التي غطت الإسكندرية، هذه المدينة التي ظلت قرونًا عديدة ملجأ الثقافة اليونانية وقلعتها الحصينة فقد تحولات الآن إلى روما، المركز الرئيسي للكنيسة المسيحية. إن سماء الإسكندرية لم تعد هذه السماء الزرقاء الصافية بل عكست عليها لهب النيران المندلعة في مراكزها العلمية الرئيسية التي كانت مركز الإشعاع في دليتا النيل لونًا أحمر قانيًا، وذلك لأن دواوين الشعر اليوناني التي لا تعوض والتراث الأدبي والفلسفي وتاريخ العلوم الهلّينية تحولت بين عشية وضحاها إلى أكوام من الرماد بفعل المسيحيين المتعصبين الذين شفوا غليلهم وأرضوا شهواتهم فحرقوا وأبادوا ودمروا كل ما وصلت إليه أيديهم من تراث علمي يوناني اعتقادًا منهم أنه قد يتعارض والتعاليم المسيحية.
ففي عام ٤٨ ق. م. عندما حاصر يوليوس قيصر الإسكندرية التهمت ألسنة النيران جزءًا كبيرًا من المكتبة الشهيرة الكائنة في «موسيون»، فما كان كليوباترة إلا أنها عوضت هذه الخسارة ببعض الكتب التي كانت موجودة في «برجامون». لكن في القرن الثالث الميلادي نجد عمليات التخريب والإتلاف تواصل عملها دون انقطاع، فنجد بطريركًا مسيحيًا يغلق الموسيون ويطرد علماءه، وفي عهد القيصر «فالين» تحولت عام ٣١٦ م جامعة «كيزاريوم» إلى كنيسة، كما خربت مكتبتها وأحرقت محتوياتها واضطهد فلاسفتها بتهمة السحر والشعوذة. وفي عام ٣٩١ م حصل البطريرك «ثيوفيلوس» من القيصر «ثيودوسيوس» على إذن بتخريب أكبر مزار في العالم القديم وهو آخر وأكبر أكاديمية علمية، أعني «سرابيون»، كما حرق مكتبته القديمة، ولعمري إنها أكبر كارثة أصابت الإنسانية إذ كانت أكبر ضربة وجهت إلى العلوم العقلية الإنسانية، وإن مصيبة العالم فيها لا تعوض فهي ولا شك مأساة المآسي.
ولم تقف أعمال التخريب والحرق والتدمير التي قام بها متعصبو المسيحية عند هذا، بل نجد حتى أشباه الأقوياء يهيمون باقتراف أعمال الاضطهاد والتعذيب ويتخذون من ذلك لا هواية فحسب بل وسيلة للتفاني في المسيحية، فنحن نعلم أن