للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث / الرقم المسلسل:

والعقاقير الطبية العربية بل ببعض ثمرات العقل العربي.

ثم عاد قنسطنطين إلى القاهرة، وكان في إبان شبابه يلتقط هنا وهناك بعض المعلومات الطبية، ثم درس عندما بلغ سن الرجولة الطب في المدارس الشرقية دراسة منتظمة. وزار سالرنو مرة أخرى متأبطًا عددًا كبيرًا من الكتب، وكانت سالرنو في ذلك الوقت وكل جنوب إيطاليا تحت حكم الهرزوج النورماني «روبرت جويسكارد»، وبعد أن تعرف قنسطنطين على البلاد ولغتها أخذ يعمل جاهدًا فألف الكتاب تلو الكتاب، وكل كتاب يثير إعجاب القراء. إن مثل هذا الرجل يجب أن يكون عظيمًا جدًا فمثله لم تعرفه سالرنو من قبل، لكن قنسطنطين قرر لكي يؤلف وينتج أن يعتزل الناس، وأنه أحوج ما يكون إلى الهدوء؛ لذلك انتقل إلى جبل كسينو، الذي ألّف فيه أشهر كتبه الطبية وساعده الراهبان «أتو» و «يوحنا» في تقويم لغته اللاتينية الركيكة.

وحدث أن أقبلت يومًا ما فرقة من الفرسان الشقر الفيكنج ومعهم أبناء الصحراء الذين لوحتهم الشمس فبددت هذه الفرقة الهدوء الذي كان يعيش فيه قنسطنطين، وقد جاء ملك النورمان نفسه وهو «روبرت جويسكارد» يحيط به نفر من النورمان الممشوقي القوام والمسلمين المخلصين له، وإلى جانبه سار شيخ في مسوح الرهبان والملك يرشد الشيخ. ويلوح أن السن والأمراض قد تجمعت وبقسوة شديدة على هذا الكهل، وبدت معالمها واضحة على وجهه المحروم من الحنان والعطف، وهذه القسوة وتلك الشيخوخة لم تقوسا ظهر هذا الشيخ، فقد سار في رفقة الملك متزن الخطا لا يلتفت يمنة أو يسرة ويدب على الأرض المرصوفة كما لو أنه من حديد لا يعبأ بالتقاليد التي لم يضعها هو نفسه.

ثم تختفي الضوضاء التي أحدثها الفرسان، كما اختفى معها الفرسان والهرزوج، وظل الشيخ وحيدًا، وعاد الهدوء إلى جبل كاسينو، وهو هدوء لا يختلف كثيرًا عن هدوء القبور. لقد استقبل قنسطنطين المؤلف والكاتب مريضًا قد حطمته السنون والعلل، ولذلك حمل إلى سفح الجبل حيث الدفء والطقس المعتدل وكبار الأطباء في جامعة سالرنو. وفي مايو عام ١٠٨٥ لفظ هذا الكهل نفسه الأخير

<<  <   >  >>