للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"لأن من عرف مستورَ المعنى ومكشوفَه ومرفوض اللفظ ومألوفَه، وميَّز البديعَ الذي لم تقتسمه المعارض ولم تعتسفه الخواطر، ونظَرَ وتبَحَّر، ودار في أساليب الأدب فتخَيَّر، وطالت مجاذبتُه في التذاكر والابتحاث، والتداول والابتعاث، وبان له القليلُ النائب عن الكثير، واللَّحْظُ الدالُّ على الضمير، ودرى تراتيبَ الكلام وأسرارَها، كما درى تعاليقَ المعاني وأسبابَها، إلى غير ذلك مما يُكمِّل الآلةَ ويشحذ القريحة - تراه لا ينظر إلا بعين البصيرة، ولا يسمع إلا بأُذُنِ النَّصَفَة، ولا ينتقد إلا بيد المَعْدِلة، فحكمُه الحكم الذي لا يبدَّل، ونقده النقد الذي لا يُغيَّر" (١)،

بين المرزوقي بهذا الكلام أسبابَ الاختيار عند أهل النقد بأنها أسبابٌ حقيقية لا وهمية. قال الآمدي في الموازنة: "وأنبه على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرذلَه، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التخليص وتحيط به العناية. ويبقى ما لم يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما لا يعرف إلا بالدُّربة ودائم التجربة وطول الملابسة. وبهذا يفضُل أهلُ الحذاقة بكل علم وصناعة مَنْ سواهم ممن نقصت قريحتُه وقلت دُربته، بعد أن يكون هناك طبعٌ فيه تقبُّلٌ لتلك الطباع وامتزاج، وإلَّا لا يتم ذلك". (٢)


(١) نشرة هارون، ج ١، ص ١٤ - ١٥.
(٢) ص ١٦٧، طبع الجوايب بالآستانة. - المصنف. أورد المصنف كلام الآمدي بتصرف، وتمام عبارته في بيان منهجه في الموازنة بين البحتري وأبي تمام: "وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء أنواع المعاني التي يتفق فيها الطائيان، وأوازن بين معنى ومعنى، وأقول أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه. فلا تطلبني أن أتعدى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ لأنك إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد. وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت التفضيل، فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علمي من نعت مذهبيهما، وذكر مساويهما في سرقة المعاني من الناس وانتحالها، وغلطهما في المعاني والألفاظ، وفي إساءة مَن أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة ورداءة النظم واضطراب الوزن، وغير ذلك مما أوضحته في مواضعه وبينته، وما سيعود ذكره في الموازنة بين هذه الأنواع، وما ستراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعاتهما. فإني أوقع الكلامَ على جميع ذلك وعلى سائر أغراضهما ومعانيهما في الأشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنص على الجيد وأفضله، وعلى الرديء وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما =

<<  <  ج: ص:  >  >>