وروى أبو داود، وغيره بإسناد صحيح، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِيْنَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْناَبَ الْبَقَرِ، وَرَضِيْتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لا يَنْزعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِيْنِكُمْ"(١).
وإنما لَّوح - صلى الله عليه وسلم - إلى مفارقة الدين بذلك لأن من رغَّب عن الجهاد - ولعله الجهاد الشامل لجهاد النفس في طاعة الله تعالى، وعن معاصيه - ورغب فيما ذكر من الاستقصاء في تحصيل الدنيا بحيلة العينة، ومزاحمة أهل الحراثة في حراثتهم، والاستكثار بالزروع، فقد غفل عن الله تعالى، فأوقعته الغفلة في الذلة.
ولقد شاهدنا هذا في ملوك الناس ووجوههم حين تركوا ما هو المطلوب منهم من الجهاد وطلب العلم والدين كيف ذلُّوا؛ وأيُّ ذلٍّ أعظم من ذل الجهل والاشتغال بغير الله تعالى.
فإن قلت: فقد ذكر الله تعالى في الآية من زينة الدنيا منكوحاتها، ومركوباتها، ومطعوماتها، ثم قال:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[آل عمران: ١٤]، فما له لم يذكر ملبوساتها ومفروشاتها مع أنها من متاع الحياة الدنيا؟
قلت: بل هي مذكورة في الآية لأنها إما من جلود الأنعام
(١) رواه أبو داود (٣٤٦٢) وفي إسناده مقال. وصحح ابن القطان إسناده في "بيان الوهم والإيهام" (٥/ ٢٩٤).