قال الإمام النووي في «روضة الطالبين» (١٠/٢٨٢) : «المسلم إذا كان ضعيفاً في دار الكفر، لا يقدر على إظهار الدِّين حَرُمَ عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ... » . اهـ. وحين يجد المسلم موضِعاً -داخل القطر الذي يعيش فيه- يَأمنُ فيه على نفسه ودينه وأهله، وينْأى فيه عن الفتنة التي حلَّت به في مدينته، أو في قريته، فعليه -إن استطاع- أن يهاجر إلى ذلك المكان داخل قطْره نفسه، وهذا أولىَ -وبلا شك- من أن يهاجر إلى خارج قطره، إذ يكون أقرب إلى بلده ليُسرع بالرجوع إليه بعد زوال السَّبب الذي من أجله هاجر. وقد هاجر أشرف إنسان وأعظمه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، من أشرف بقعة وأعظمها؛ مكة المكرمة، وكل إنسان -منذ خلق الناس إلى الساعة-، دون محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ منزلةً، وكل بقاع الأرض، دونها؛ شرفاً وقُدسيةً. والهجرة كما أنها مشروعة من قُطر إلى قُطر، فهي مشروعة من قرية أو من مدينة إلى قرية أو مدينةٍ داخل القطر نفسه، والمهاجرُ يعرف من نفسه ما لا يعرفه منه غيره. والهجرة من قُطر إلى قُطر لا تشرع إلا بدواعيها وأسبابها، ومن أعظم هذه الأسباب: أن تكون الهجرة للإعداد واتخاذ الأهبة التي أمر الله بها {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } ؛ لإجلاء الأعداء عن أرضٍ من أرضِ المسلمين، وتخليصها من أيديهم؛ ليعود إليها حكم الإسلام كما كان من قبل. فالهجرة -إذن- من الإعداد الذي أمر الله به وحضَّ عليه، ومن أبطأ فيها -وقد تهيأت أسبابها ودواعيها- فقد عصى الله، ونأى بجانبه عن أمره. فإن علم المسلم -أو المسلمون- أنهم ببقاءهم في ديارهم يزدادون وهناً إلى وهن، وضعفاً إلى ضعف، وأنهم إن هاجروا ذهب الوهن عنهم، وزال الضعف منهم، وبقوا -بعد علمهم هذا- ولم يهاجروا -إن استطاعوا-؛ فهم آثمون عاصون أمر الله، وربما عوقبوا بمعصيتهم هذه عقوبة أعظمَ وأشدَّ نُكراً، تتلاشى فيها شخصيتهم، وتغيبُ معها صورتهم، وتضل بها عقيدتهم، ثم لا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً. =