قلت: وذكر الهروي - رحمه الله - أيضاً في كتابه في موضع آخر: "وكانت فيها إخاذات أمسكت الماء" وقال: الإخاذات: الغدران التي تأخذ ماء السماء فتحبسه على الشاربين واحدتها: إخاذة, وهذا مناسبٌ للفظ الحديث، فإنه قال: "وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله به الناس، وشربوا منه" والله أعلم. قال الخطابي: وأما: "أجادب" فهو غلط وتصحيف قال: وقد روي أحادب بالحاء المهملة والباء من "جامع الأصول" (١/ ٢٨٦ - ٢٨٧). (١) أخرجه البخاري رقم (٧٩) ومسلم رقم (٢٢٨٢). قال القرطبي في "المفهم" (٦/ ٨٣ - ٨٤) في شرح هذا الحديث: ضرب مثل لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلم والدين، ولمن جاءهم بذلك، فشبه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يحييهم، ويُغيثهم، ثم شبه السامعين له: بالأرض المختلفة؛ فمنهم: العالم العامل المعلم، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شربت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم، الحافظ له، المستغرق لزمانه في جمعه ووعيه؛ غير أنه لم يتفرغ للعمل بنوافله، ولا ليتفقه فيما جمعَ، لكنه أداه لغيره كما سمعه, فهذا بمنزلة الأرض الصلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، فيشربون ويسقون، وهذا القسم هو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امرأً سمع مني حديثاً فبلغه غيره, فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه" (أ). لا يقال: فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها, ولم تشرب في نفسها يقتضي ألا تكون عملت بما لزمها من العلم، ولا من الدين، ولم يقم بما وجب عليه من أمور الدين، فلا ينسب للعلماء ولا للمسلمين؛ لأنا نقول: القيام بالواجبات ليس خاصاً بالعلماء، بل يستوي فيها العلماء وغيرهم. ومن لم يقم بواجبات علمه كان من الطائفة الثالثة التي لم تشرب، ولم تمسك؛ لأنه لما لم يعمل بما وجبَ عليه لم ينتفع بعلمه؛ ولأنه عاصٍ فلا يصلح للأخذ عنه. =