للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأقول: الحكيم أبو الحكم، حكم له بالحِكم، ولم يمنعه حكمه وحكمته، عن الجري في ميدان الهزل، والجمع في نظمه السّخيف بين الإبريسم والغزْل، ولم يميز في شعره حلاوة العمل من مرارة العزل، بل مزج السخف بالظرف، ولم يتكلف مكابدة النقد والصرف، فخلط المدح بالهجو، وشاب الكدر بالصفو، ونظمه في فنّه سلس، وللقلوب مختلس، ومقطّعاته مقطِّعات للأعراض، مفوّقات الى أغراض الأغراض، إذا جال في مضمار القريض الطويل العريض، يؤمن عثاره، ولا يشقّ غباره، وله قصائد غرّاء في مدح عمّي العزيز، صار بها من أولي التمييز، فلعلّه لم يُجِدْ في غيرها، لأجل ما يوالي عليه من خيرها، فقد استغنى في نعمته، وعرف بدولته، وتلك القصائد مع المدائح التي جمعت في العزيز، نهبت في جملة كتبه، لعن الله من جاهر بحربه، ولم يقع إليّ من شعر أبي الحكم، صاحب الحِكم، إلا جزئيات من جملة ما نظمه بدمشق لهواً، وضرب على الجد فيه عفواً، من كتاب، سماها نهج الوضاعة لأولي الخلاعة، فأثبتّ من الجزأين المقطوعين ما استطبته، وتركت ما عِبته، وكان أعارني من الجزأين ببغداد الشيخ البائع يحيى بن نزار.

فمن ذلك له قصيدة يمدح بها منير الدولة حاتم بن محسن بن نصر بن سرايا، ويصف مشروباً أهداه له في سنة أربعين وخمسمائة، وهو من نظيف نظمه:

لي أدمعٌ لا تزال منسكبهْ ... وزفرة لا تزالُ ملتهِبهْ

على فتاة ألِفتُها فغدَتْ ... عنّي عند الوِصال محتجبهْ

تُخجِلْ شمس الضحى إذا انتقبت ... والقمرَ التمّ غير منتقبهْ

للحسن سطْر من فوقِ وجنتها ... فليس يقرأهُ غيرُ من كتبَهْ

فقُفْل صبري لمّا طمِعْتُ بها ... أصبح من وصْلِها على خرِبَهْ

يا حبّذا ليلة لهوتُ بها ... أرشفُ من برْدِ ريقها شنَبَهْ

تخاف أن يغدرَ الظّلام بنا ... فهي لضوء الصّباح مرتقِبَهْ

ومنها في صفة المطية:

هذا وكم جبتُ مهْمَهاً قذفا ... على بعيرٍ في ظهره حدَبَهْ

ومنها في الهزل:

إذا ذُبابُ الفَلاةِ طاف به ... حرّك من خوف قَرْصِه ذنَبَهْ

يأمَنُ ممّا يخافُ راكبُه ... لأنّه عصمةٌ لمن ركِبهْ

إن هو أرخى الزّمام أسرعَ في الس ... سَيْر وإن رام مهلة جدبَهْ

ومنها في المديح:

ولست أعتدّ للفتى حسباً ... حتّى أرى في فِعاله حسبَهْ

سميّه لو غدا مساجله ... في المجدِ والمكرُماتِ ما غلبَهْ

مُبرّأ من خنًى ومن دنَسٍ ... مطهّر الجيب سالم الجنبَهْ

تصبح من عِفّةٍ صحيفتُه ... مبيضّةً ليس تُتعبِ الكتبَهْ

لم يعدم الراغبون نائله ... ولم يضيع لقاصدٍ تعبَهْ

وكل شخص يؤمّ منزله ... يقرع باباً مُبارك العتبَهْ

ما يصفُ الآن منه مادحُه ... أبشْرَه أم نداه، أم أدبَهْ

أعيَتْ سجاياه وصفَ مادحه ... وإن أجادَ المديحَ وانتخبَهْ

أهلاً بمن جاد بالعقار ومن ... جاء به مسرعاً ومن شربهْ

فدَيْتُ قطّافَهُ وعاصرَه ... ومن سعى فيه وانتفى عنَبَهْ

ومن وعاهُ في دنّه زمناً ... واكتاله في الظّروف إذ حلبَهْ

بَني سرايا لله درّهم ... ليس لهم بين ذا الأنام شبَهْ

من أبصر الأجنبيّ بينهم ... يظنّه واحداً من العصبَهْ

لا مُتّ حتى أرى عدوّهم ... مستنداً ظهرُه الى خشبَهْ

وله من قصيدة في مدح الأديب نصر الهيتي، ويوصيه فيها بمهاجرة أبي الوحش الأديب:

إذا رام قافية نظمها ... غدا طوعَه سهلُها والعسيرُ

وذاك الذي شعرُه حِنطة ... وشِعْر سواهُ لدينا شَعيرُ

وما كمقاماتِه للبديع ... وليس له اليومَ فيها نظيرُ

فقد حسد الشّامُ فيه العراقَ ... وظلّتْ به جِلّقٌ تستَنيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>