بخمس:"إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً؛ دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكن في حياتها أحد يدخل لذلك إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سدت وبني الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره البتة، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلم يعبروا عن وجوده، وقد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله تعالى أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة وهم أعلم الناس بمثل ذلك، ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه، لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره، وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة، كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض الجهال ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه، إلى آخر ما قدمناه من الكلام النفيس.