وأما استدلال صاحب الرسالة بتلك المرثية على جواز النداء بعد وفاته فجوابه من وجوه:
(الأول) : أن "يا" هنا للندبة لا للنداء كما في قول فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه، رواه البخاري من حديث ثابت بن أنس، وكما في قول الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي رواية يزيد بن بابنوس عن عائشة عند أحمد أنه أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه. كذا في المواهب.
ومنه قول علي رضي الله عنه حين توفي عمر رضي الله عنه وقد وضع على سريره: يرحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، فأني كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما. رواه البخاري من حديث ابن عباس، وبعين ما ذكرناه كونها واقعة في الرثاء.
و (الثاني) : أنه لو سلم أنه نداء، فالنداء قد يراد به غير المنادى، قال الحافظ في الفتح تحت حديث:"إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون": وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب بوجهين: أحدهما صغره، والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. اهـ.
ومن هذا القبيل ما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك". رواه أبو داود.